د. عبدالحق عزوزي
السؤال المطروح في عنوان المقالة سؤال غالباً ما يطرحه كل من له غيرة على وطنه العربي، وهو سؤال للأسف لم تتم الإجابة عليه بالحرفية والعلمية الكفيلتين بإحداث ثورة ثقافية وفكرية وعلمية وحضارية، تمكن من إحداث أدوات التطور والتنمية
في أوطاننا. وهذا السؤال هو محور كتاب جديد ألّفته وأصدرته دار إفريقيا للنشر. وهذا الكتاب هو عصارة ما أراه ضرورياً لفهم الواقع وتفنيد بعض النظريات، واقتراح خطة طريق علمية بأسلوب سلس لنهضة الوطن العربي، يفهمه الطالب والأستاذ ورجل الدولة، ويفهمه الحاكم والمحكوم ويفهمه رجل الاقتصاد ورجل التنمية، بصفاء بصيرة واقتناع فكري عميق، لنشر الوعي وتنبيه الأذهان وتربية الناشئة تربية صحيحة للخروج من ظلمات الجهل إلى نور الفهم، ومن نفق الفتور العام إلى الضوء الجلي، ومن الانحطاط المظلم إلى النهضة والتقدم السليم....
فالتطور عملية ممكنة ودائمة وهي سنّة الله فوق الأرض منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وتكون نتائجها قابلة للتنبؤ في الكثير من الأحيان؛ فالبقاء في عالم مُعولم هو القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة والمتقلبة ونفس الشيء في المجال السياسي، فالبقاء لمن يستطيع أن يتكيف مع التغيرات والتطورات السريعة. وإلا لماذا انهارت الاشتراكية مثلاً؟ لأنها لم تستطع التكيف مع المرحلة المعاصرة للثورة العلمية والثقافية؛ وتفاقم هذا الوضع بفعل عدة ظواهر وعمليات أخرى بما فيها حالات العجز الكبيرة في حجم العرض، بالإضافة إلى عوامل ذات طبيعة سياسية أو دولية.... ثم لماذا انهارت أنظمة مثل نظام القذافي وبنعلي ومبارك وغيرها؟ لأنها لم تستطع التكيف مع متطلبات عصر تغير فيه كل شيء، كما تجاهلت قواعد السياسة وطبائع الأجيال والموجودات وأهملت تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام؛ وهاته المسألة كما يقول ابن خلدون (داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال؛ وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنّة الله التي قد خلت في عباده ...)..
ثم إننا ننتمي إلى عالم معولم يتغير بسرعة، ونعيش أكثر من أي وقت مضى تحت سقف واحد، ونرى شاشات تلفزية متنوعة تنقل إلينا أخباراً متعددة وصوراً متنوعة وتختلف وجهات نظرنا وردات أفعالنا حسب التكوين والبيئة إلى غير ذلك؛ فلم يكن العالم يوماً قاراً أو ساكناً فانتفض فجأة لا! ولا الكرة الأرضية على ثبات وإذا هي تتحرك فجأة! ولكن العالم يتراءى إلينا وهو يتغير بسرعة كبيرة وبوتيرة أعمق، ولم يستقر على حال يمكن أن يوصف بالديمومة أو الثبات؛ لذا فالحيرة تصيبنا عندما نريد أن نقوم بتحليل لنظام إقليمي أو دولي هما في جوهرهما متغيران وانتقاليان على الدوام، ونسعى أن نتوقع نظاماً دوليا أو إقليمياً لهما قدر كاف من الاستقرار والثبات؛ ومن هنا نفهم محدودية تلك النظريات في مجال العلاقات الدولية التي تذبل قبل جفاف الحبر الذي كتبت به، والأفكار التي تولد ميتة؛ والنتيجة أن العالم أصبح أكثر ضبابية مع انتهاء الحرب الباردة وتقلص الدور الروسي في العالم ونهاية الثنائية القطبية وانتقاله إلى الأحادية الأمريكية، حيث القوة الاقتصادية والقوة الدبلوماسية والسياسية والعسكرية واللغوية والثقافية بدت مجتمعة في كيان واحد ومظلة واحدة ،تتعدى قوة العديد من الدول مجتمعة بل والعديد من القارات؛ والمشكل في الوطن العربي هو أنه يقع في منطقة حساسة جداً، أي على موقع نقطة التقاء قارات ثلاث، وفي منطقة مرغوب فيها جداً لأنها تتوفر على مخزون هائل من النفط متوفر تحت صحرائها وبمنطقة جغرافية حساسة بسبب جيرتها المباشرة بالكيان الصهيوني؛ فاجتماع هاته العوامل جعلت المنطقة العربية في جوهر الشأن الدولي أو الاستراتيجية الدولية؛ والمشكل الآخر هو أنّ المنطقة العربية رغم هاته العوامل المحددة لتموقعها داخل النظام الدولي، هي لاعب غير قوي بسبب غياب الوحدة والقوة والمناعة، بما يسمح لها بمجاراة التكتلات الجهوية والإقليمية والدولية....
انطلاقاً من كل هذا الكلام، تنتظر العالم العربي تحديات جساماً، وبدل أن نتلهى بإبداع خطابات رنانة وترتيلات مدوية وجوفاء لا تغير شيئاً من أوضاعنا، ينظر الكتاب بموضوعية وأكاديمية إلى الحال، وإلى الإصلاحات والتحديات التي نحن في حاجة إليها وتناسبنا؛ وهو ما أقدمت عليه في الأقسام الستة لهذا الكتاب بالاحتكام إلى أدوات الفكر والقواعد داخل المجال السياسي العام، كما جاءت به أهم القواعد في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، والتي هي قواعد وأسس على شاكلة القواعد الرياضية والفيزيائية والطب والهندسة وعلوم الإحياء. فلا يمكن أن يتداوى الإنسان بالخواطر الذاتية، بل بالأدوية الصحيحة والدراسة الطبية المتميزة.. ولا يمكن لربابنة الطائرة أن يكونوا سائقي شاحنات غير محترفين ولا متدربين، ولا يمكن تدبير إدارة قطاع بنكي أو مصرفي بدون بنكيين ومصرفيين مقتدرين يخضعون إلى قواعد التسيير والقواعد البنكية المتعارف عليها.. نفس الشيء يقال عن المجال السياسي العام وأدواته مثلاً؛ إذ لا يمكن لتلك الأدوات أن تأتي من فراغ أو أن تختزل في مسارات أو أجهزة تنافي الطبيعة السياسية التي تفهمها وتسيرها العلوم السياسية، كما هو شأن جل المجالات السياسية التي أبانت عن نجاحها منذ عقود. لذا وجب التخلي عن الخواطر الذاتية والنزوات الداخلية والتخلي عن الأفكار المسبقة وإشاحة النظر عن النظريات المزيفة، وازدراء الشعارات الرنانة والمدوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والتي غالباً ما نجدها في الكتابات المتنوعة عن الوطن العربي، وتجاهلنا التفسيرات السهلة بحثاً عن الحقيقة النافعة انطلاقاً من الأكاديمية والعلمية التي ننشدها؛...ومنذ أزيد من عقد كان همي في محاضراتي وكتاباتي ومقالاتي الفكرية، ومنتديات فاس الدولية التي أنظمها والكتب السنوية التي أتشرف بتحريرها، كالدليل المغربي للاستراتيجية والعلاقات الدولية والتقارير الاستراتيجية التي كتبتها بتعاون مع مؤسسات ومراكز بحثية مقتدرة، منصباً على أمة عربية أحلم بقيامها مع جيلي وكل الأجيال... وأعمل فكرياً مع آخرين لنهضتها وأجتهد لتحقيق عزتها بين الأمم، وهذا فرض عين على كل عربي وكل من موقعه....
إنّ بناء الدولة الحديثة إنما يقوم على ثنائية العلم والعمل السياسي. وهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة. فبدون العلم أي المعرفة تنتفي التقنية والتقدم والاحتراف داخل المجال العام للدولة، وبدون عمل سياسي حقيقي خاضع لأدوات العلوم الإنسانية والاجتماعية الدقيقة، فإن إدارة الشأن العام ستفشل، وتضيع بذلك مصالح الجميع. وفي العديد من الأوطان العربية تنهار بعض من مظاهر هذه الثنائية فيتلوث المجال السياسي العام وتدخله ميكروبات خطيرة تأتي على الخلايا السياسية والخلايا الرمادية على السواء. وقد يظن ظان أنه في مجتمعاتنا تكون هذه الخلايا منفصلة عن بعضها البعض. وهذا كلام خطأ. فالخلايا السياسية الصحيحة تحمي وتشجع وتطور وتخلق الأرضية والتنافسية لأهل العلم... والعلم لا يمكنه أن يسيّس، بل إن الحيادية والموضوعية هما أساسا التقدم العلمي الصحيح... والسياسي داخل المجال السياسي العام إنما يقوم بإعمال أدوات تسيير الشأن العام لخلق الأرضية من إمكانات مادية وجامعات ومختبرات، لكي لا ينفصل العمل العلمي عن مسيرة التقدم، وإلا أضحى المجال السياسي محدوداً أو ملوثاً يعيد نفس المعلومات ويكرر نفس التوجيهات فترجع العجلات إلى الوراء.
كما أشرت في الكتاب إلى أنّ الوطن العربي بحاجة إلى إعادة النظر في المنظومة التربوية والتعليمية مجتمعة وهي التي لوحدها تحقق التنمية والتنمية الهادفة... فالمطلوب من العالم العربي الآن هو البحث عن قاعدة تعليمية صلبة ومتمكنة، لأنّ نهضة الأمم تكون أولاً وأخيراً بالعلم... ويمكن أن نأخذ مثال الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، حيث نجد أن البحث العلمي المتقدم وجودة التعليم هما أساسان في قوة الاقتصادين وهيمنتهما...
- فمستوى التعليم في الوطن العربي متخلف بالمقارنة بالمناطق الأخرى في العالم.
- يحتاج نظام التعليم العربي إلى إصلاحات عاجلة لمواجهة مشكلة البطالة وغيرها من التحديات الاقتصادية. وعلى الرغم من أن معظم الأطفال في العديد من الدول العربية استطاعوا الاستفادة من التعليم الإلزامي، وتقلصت الفجوة بين تعليم الجنسين، إلا أن الدول العربية ما زالت متخلفة عن كثير من الدول النامية في هذا المجال. كما خصصت الدول العربية 5 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي، و20 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي على التعليم خلال الأربعين سنة الماضية. كما توجد فجوات كبيرة بين ما حققته الأنظمة التعليمية في العالم العربي، وبين ما تحتاجه المنطقة في عملية التنمية الاقتصادية.
فأحد أسباب ضعف العلاقة بين التعليم وضعف النمو الاقتصادي هو انخفاض مستوى التعليم بشكل كبير. فهناك تخلف للمنطقة العربية في اكتساب المعرفة ناهيك عن إنتاجها، ولذا فإنّ على كل مجتمع وقطر عربي أن يسعى إلى تطوير هذا المورد الإنساني الذي لا ينقص بل ينمو باستعماله، وتتكون المعرفة من البيانات والمعلومات والإرشادات والأفكار، أو بمعنى آخر مجمل البنى الرمزية التي يحملها الإنسان أو يمتلكها المجتمع، في سياق دلالي وتاريخي محدد، وتوجه السلوك البشري، فردياً ومؤسسياً، في مجالات النشاط الإنساني كافة في إنتاج السلع والخدمات، وفي نشاط المجتمع المدني والسياسة وفي الحياة الخاصة.