د. عبدالحق عزوزي
كل من يزور البلدان الأوروبية هاته الأيام وبالأخص فرنسا وبلجيكا يطلع على حالة الخوف والهلع لدى الأوروبيين... والمتهم الأول في نظر العديد منهم هو الإسلام والمسلمون والإسلام بريء من أعمال الإرهابيين الذين لا ملة لهم. الإرهاب هو عدو الإنسانية،
فحقاً الإرهاب لا دين ولا هوية له وهو الذي يحول حياة الناس كما يكتب الزميل علي النعيمي في تلك البلدان إلى بؤس وشقاء وعناء، وعمل على هدم النسيج الاجتماعي في العديد من البلدان لسحق الأقليات وقطع الرقاب وتعلقها على الطرقات والمساجد، وليس هناك أكثر دليلاً مما تفعله «داعش»، والتي تُسمي نفسها الدولة الإسلامية في العراق والشام، فما أبعدها عن الإسلام أو حتى الإنسانية، وهي التي تمثّل الإرهاب بأبشع صوره الحديثة، وتُعتبر «داعش» مهدداً رئيساً للأمن الإقليمي والعالمي على حد سواء، حيث بات هذا التنظيم الذي ألغى الحدود بين العراق وسوريا بسيطرته على رقعة جغرافية تجمع بين الدولتين، يسيطر على حوالي 40 ألف كيلومتر مربع، وهو ما يساوي مساحة بلجيكا، فيما يقدر آخرون أن داعش يسيطر على ما يصل إلى 90 ألف كيلومتر مربع من الأراضي التي تقع تحت سيطرته المباشرة أو لديه تأثير فيها، وهو ما يقارب مساحة الأردن. فوجد التنظيم تلك البيئة الحاضنة التي يسببها الفقر أو القمع الممنهج الذي عرفته بعض الشرائح المجتمعية والمذهبية في هذه المناطق، إن كان ذلك من قِبل النظام السوري أو من النظام العراقي، ويملك التنظيم المقومات البشرية من خلال تجنيد أطفال ومراهقين بين 12 و17 عاماً بأعداد كبيرة عبر غسل أدمغتهم التي يسهل التحكم فيها واستغلالها باسم الدين حيث إن مثلث الجهل والفقر والعطالة يلعب دوراً رئيساً في ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإن التنظيم يملك قوة مالية تسمح له بدفع مرتبات تُعتبر أكثر من كافية بالنسبة للمقاتلين بالإضافة إلى احتواء عائلاتهم.
ومن هنا فإنّ تمويل التنظيم نفسه واستقلاله المادي جعله يكبر ويتوسّع ويثبت أقدامه في المناطق التي يسيطر عليها. والمعلوم حتى اليوم أنه قام بتمويل نفسه متكئاً إلى إستراتيجية العصابات، من خلال ملايين الدولارات التي تصله شهرياً من عائدات آبار البترول والغاز الواقعة تحت سيطرته، وكذلك من خلال فرض الضرائب على المناطق التي يسيطر عليها، وكذلك من خلال التهريب والخطف مقابل فدية، بالإضافة إلى الأموال التي استولى عليها من البنوك المتواجدة في المدن والتي اجتاحها.
ومن خلال النجاحات التي حققها تنظيم «داعش» على الأرض انتعشت التنظيمات الإرهابية في جميع أرجاء الْعَالَم الإسلامي وبدأت تصدر البيانات التي تؤكد على تضامنها مع بعضها البعض وقد قد يكون البعض منها بدأ ينسق مع الجماعات الإرهابية خارج بعده الجغرافي للاستفادة من الزخم الإعلامي لتجنيد الاتباع وجمع الأموال وصنع هالة إعلامية تخدم أجندته.
عاشت فرنسا إذن أياماً عجافاً وما زالت تعيشها بسبب الإرهاب الغاشم الذي لا دين له ولا ملة، يأتي على الأخضر واليابس في انتهاك سافر للحياة والعيش المشترك. هؤلاء الشباب الذين قادوا عملياتهم الإرهابية بعضهم كان يملك مقهى للخمور والبعض الآخر كان لا يلازم الشعائر الدينية في شيء؛ وبعد عشية وضحاها، تصلبت عقولهم ليحملوا الأحزمة الناسفة والكلاشنيكوف ويرموا بها في وجه الأبرياء. حوالي ستة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا والمساجد فيها ممتلئة وتقام الشعائر دون أية مشكلة، لأن طبيعة الدولة الفرنسية لا تتدخل في الاعتقاد الديني وتحمي باسم تسيير الشأن العام والمصالح العامة أماكن العبادة. تصور معي لو وقعت هاته الأمور في مجتمعاتنا؟ لكنا قد نادينا بغلق كل الكنائس والأديرة. وللأسف هذا ما بدأ يدعو إليه المسؤولون السياسيون الفرنسيون اليوم بغلق كل المساجد التي تتبنى خطاً هجومياً ضد الثوابت الفرنسية ناهيك عن إجلاء أئمتها.
أين هو المشكل إذن؟ المشكل فينا نحن. كيف أصبح هؤلاء الشباب الفرنسيون والبلجيكيون من أصول مسلمة إرهابيين؟ كيف تصلبت عقولهم وتحجرت أفكارهم في مجتمعات أمدتهم بكل أنواع الخيرات بما في ذلك حق الإقامة ونفس الحقوق التي عند المواطنين الأصليين كالتغطية الصحية والتعويض عن عدم العمل والمساواة في الأجور. هؤلاء تم تخديرهم فكرياً وتحقينهم بمعطيات خاطئة ومغرضة وخطيرة عن حقيقة الدين والجهاد. اقتنعوا في رمشة عين بمسلّمات زائفة وضعت في خلاياهم الجسمية بإحكام. وأولئك المنظرون الزائفون الذين كانوا وراء هاته الجاهلية الأولى، يمدونهم بمختارات من التراث وما يناسبهم، ويتخيرون لأنفسهم ولهم من التفاسير ما كان منها مرجوحاً ويشيحون عما هو راجح، يتخطفون من الأقاويل المرسلة ويتركون الأقاويل الموثقة، يأخذون جزءاً من آية قرآنية ويتركون باقي الآية، ناهيك عن جهلهم بأسباب النزول وقواعد الناسخ والمنسوخ...
هؤلاء الشباب ضلوا وأضلوا وارتووا من المخالطات والتداخلات والمغالطات، فازدادوا من ضحالة الفهم صلابة، واكتسبوا من ضيق الأفق شدة، ومن بعض المواقع الإلكترونية بريقاً كاذباً توحي إليهم أنهم هم وحدهم الخلاص والأمل والنجاة، وهم في الأخير لا ولن يستهدفوا إلا روح الدين ووجه الحق وأصول الواجب.
أعيب هنا على العلماء والمفكرين المسلمين المتضلعين الذين يكتبون أو يمكن أن يكتبوا بلغة موليير وشكسبير غيابهم في الساحة الإنتاجية عن ديننا الإسلامي الوسطي المعتدل، وأعيب على المؤسسات والمنظمات الجهوية والإقليمية الجامعة للدول العربية والإسلامية غياب استثمارها الهادف والمنتج في الفهم الحقيقي للدين ولتعاليم الشريعة والجهاد والنفس، لتطعيم العقول بالفهم الصحيح والعلم السديد وللرد على أولئك الذين يضلون أبناء الجيل الثاني والثالث من المسلمين المقيمين في الغرب، ويزلونهم عن العقل باسم الحاكمية والجاهلية والكفر، حيث صار واجباً في نظرهم إعداد الأمر للخروج من غيابات الجاهلية والدخول في الحالة الإسلامية، وتغيير أبجديات النظام العالمي بعمليات إرهابية، وضرورة مؤازرة أولئك الذين يسعون حسب زعمهم إلى إقامة الدولة الشرعية والخلافة الراشدة ولو كان ثمن ذلك مقاتلة العالم كله!!! شرعنة الجهاد بهذا المعنى الخطير أضحت من المسلّمات، وهو ليس بالشيء الجديد، إذ انفجرت السلفيات الجديدة منذ عقود خلت، وصولاً إلى القاعدة وأشباهها ثم داعش، فأضحت أدوات الدين بأيدي قتلة، يتلاعبون ويتاجرون بها وهي محكمة البنيان لأنها تستمد من شعار إنتاج «الخلافة» حيويتها وقوتها وهي من خلال ذلك تدمر الدول والمجتمعات.
الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند أعلن حرباً ضد داعش، وأعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أيام قبل أن يصادق البرلمان الفرنسي على تمديده لثلاثة أشهر بناء على مقتضيات الدستور، وأقلعت حاملة الطائرات شارل دو كول من ميناء تولون إلى الخليج العربي، لقذف مواطن تكوين داعش وطرق الإمدادات اللوجستية لهم، وتغيرت الأوراق الإستراتيجية حيث إن روسيا أصبحت حليفاً موثوقاً به في مواجهة داعش في المنطقة، ليترك نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون جانباً، ولتنسى قضية الشعب السوري بأكمله، وهل كل هذا يكفي؟ لا. سيُقضى على داعش كتجمع إرهابي في منطقة معينة كما قضي على طالبان وستتعدل بعض من أمور السياسة رغماً عن الإيرانيين وداعش والأسد لأن البشر في حاجة إلى تسيير الشأن العام أي إلى سلطة سياسية حقيقية. ولكن أوجه الانزلاقات والانفجارات والخراب ستستمر هنا وهناك، وستستيقظ وستخلق مجموعات إرهابية جديدة تخرج من البر والبحر والجو، إذا لم نستثمر في عقول الشباب في مجتمعاتنا العربية والمسلمة وفي المجتمعات الغربية على السواء، خصوصاً أن مثل هاته العمليات الإرهابية أصبحت سهلة جداً، فهل من مستمع؟!!!