د. عبدالحق عزوزي
إن الإرهاب كما سبق وأن قلنا مراراً رغم الضربات التي تلقاها في السنوات الأخيرة ما زال يثبت للعالم قدرته على التأقلم وحشد الأتباع الذين تلوثت قلوبهم وأفئدتهم، والمطلوب في هذه المرحلة تعاون دولي مستمر لإزالة المسببات وما تحت حشائش الإرهاب.
إن إزالة الإرهابيين «كداعش» من الوجود عملية مصيرية وطويلة الأمد بمعنى أنها صعبة جداً، فلا يكفي استئصال الإرهابيين وسفاكي الدماء الملوثة عقولهم وقلوبهم، محبي قطع الرؤوس فحسب، بل لابد أيضاً من التأثير على عقول البشر لما فيه خير الإنسانية من جهة، وإعادة ترتيب الخرائط السياســية واستئصال الجمرات المذهبية الموجودة هنا وهناك، وإعادة بناء الدول الفاشلة والمنظومة العربية، من جهة أخرى.
واللافت للنظر هو أن العنف في مناطق عدة في وطننا العربي والإسلامي هو عبارة عن موجات متكررة ودائمة باسم الدين، وهو عبارة عن مغناطيس يجذب بعض أبنائنا وشبابنا ويودي بهم إلى التهلكة، بل ويجذب حتى بعض أبناء الجالية المسلمة المقيمة في أوروبا والولايات المتحدة بل وحتى أستراليا. فلا يمكن الاستخفاف بهذه الداهية العظمى ولا الإعذار، فنحن مهددون في ديننا وأوطاننا وتاريخنا وثقافتنا ووجودنا بين الأمم، وهذا التهديد يأتي من جماعات منحرفة متطرفة مثل «داعش»، و»جبهة النصرة»، و»بوكو حرام» و»أنصار الشريعة»، و»القاعدة» وغيرها من التنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق واليمن وسيناء وليبيا ومالي ونيجيريا، ومنطقة جنوب الصحراء الأفريقية... وهي كلها مسميات لإرهاب واحد حيث يضع مريدوها للانتهازية عنواناً من الدين، ويقدمون للظلم وسفك الدماء البريئة تبريرات منه، ويعطون لأفعالهم وأعمالهم وجشعهم أسماء من الشريعة والشريعة منهم براء، ويضفون على انحرافهم هالة من «الإيمان» ويجعلون سفك الدماء ظلماً وعدواناً عملاً من أعمال «الجهاد»! وهذه أمور كلها ليست من الإسلام في شيء، وإنما هي خروج عن الدين والعقل وتصرف جاهلي يحاول أن يتشح زوراً بالدين ويتسربل بالشريعة لتذوب من خلال هذه الأفعال قيم الإسلام السامية، وتمحى بهذه الأفعال مُثُل الدين العليا، والإسلام بريء منها.
والأدهى من ذلك كله هو غلو مريدي التنظيمات «الجهادية» الذين يرتمون منذ نعومة أظفارهم في مستنقع الفكر الشمولي ليخلقوا إيديولوجية عمياء هي في نظرهم خلاصية ولا يطيقون الاعتراف بفشل مشروعهم السياسي أو الاجتماعي وأكثر من ذلك فشل الجميع في العلم والمعرفة والتربية والتقنية؛ فيؤدي العرب والمسلمون، وللأسف الشديد، ثمن خروج التنظيمات «الجهادية» عن صفحات التاريخ.
ثم ما دامت هذه الفرق «الداعشية- القاعدية» تدعي لنفسها احتكار الحق وتزعم أنها على جادة الإيمان وترمي غيرها باتباع الباطل! فإن المشكلة العظمى إذن في عقولها وتكوينها وجهلها، بمعنى أن المنظومة التربوية والتعليمية والتكوينية في مجتمعاتنا أفرزت مثل هـــذه الفيروسات الخطيرة.
فلماذا لا تقوم منظومتنا التربوية بزرع المبادئ والقواعد الدينية السمحة في أفئدة وعقول الناشئة منذ صغر سنهم، وتزيل عنهم خطر الوقوع في التعصب الديني والتنازع والفرقة والاختلاف، وتشرح لهم خطورة الفهم الخاطئ والسطحي والجزئي المتوجس من المقاصد الضابطة لبوصلة النص والحكم الشرعيين؟ ولماذا لا نزرع فيهم الرؤية المقاصدية الصحيحة التي تحصنهم ضد غلوّين، غلو معطّلة المقاصد باسم النصوص وغلو معطلة النصوص باسم المقاصد؟ ثم لماذا لا نرتب في أذهانهم منطق الأولويات: الأصول قبل الفروع، الكلي قبل الجزئي، المسالم قبل المحارب، وغير ذلك؟ ومتى نحارب في أذهانهم الجهل بأحكام الشرع وأصوله وقواعده ومقاصده السمحة ونعطيهم رؤية شمولية للنصوص ومعالجة منهجية للأحكام، وهي مسائل يمكن أن ندرسها لمن سيصبح أستاذاً أو طبيباً أو مهندساً أو نجاراً أو حداداً، وبذلك ندمجه بطريقة صحيحة في مجتمعه ونقضي على سيكولوجية الإنسان المقهور المطعَّم بأفكار وقناعات ضالة ومضلة...
أوليفيي روا ((Olivier Roi هو واحد من كبار المفكرين الفرنسيين الذين أحترمهم لموضوعيتهم وعلميتهم عند دراستهم للظواهر المجتمعية وبالأخص للإسلام السياسي؛ وله عدة مؤلفات بعضها ترجمت إلى لغات عدة وهو يدرس حاليا بالمعهد الجامعي الأوروبي بفلورانس بإيطاليا... قد تتفق معه وقد لا تتفق مع التحليلات الدقيقة التي يعطيها، ولكنها عموما، دائما ما تكون لها صلة بالواقع، تفهمه وتشرحه وتنظر له، وهي الخصائص المميزة لكل علم.. كتب منذ أيام مقالة متميزة في جريدة لوموند الفرنسية لفهم سوسيولوجية إرهابيي أحداث باريس الأخيرة، وتنامي ظاهرة الإرهاب الجهادي في عقر الديار الغربية. وأصل الفكرة عنده هو أن هذا الجهاد هو ثورة الأجيال تهم الجيل الثاني من الجاليات المسلمة المقيمة في الغرب، ولا تهم لا الجيل الأول ولا الجيل الثالث. فمنذ سنة 1996، تعيش دول المجتمعات الغربية في مشكل عويص مع نوع من الشباب الفرنسي: بعض من شباب الجيل الثاني من الجالية المسلمة المقيمة في فرنسا، وبعض من الشباب الغربي الذي دخل إلى الإسلام. فالمشكل في نظر أوليفيي روا ليس هو مشكل الخلافة، وإنما المشكل يكمن في ثورة شبابية جديدة.
الساحة الفكرية الفرنسية والغربية تعج بتفسيرين لما يقع اليوم: تفسير ثقافي، وتفسير لصيق بالأزمات المتتالية في الدول العربية... التفسير الأول لصيق بصراع الحضارات والثقافات وهو الموضوع المختلق الذي يجد فيه مستثمرو الجهل والتنطع ضالتهم المنشودة. والتفسير الثاني يحيل إلى أزمة الهوية بعد استقلال الدول العربية، وتبني الأزمة الفلسطينية، ورفض التدخل الغربي في دول الشرق الأوسط، وشيوع الإسلاموفوبيا في المؤسسات ووسائل الإعلام الغربية. ولكن يمكن أن نتساءل مع أوليفي روا إذا كان هذا هو المشكل فلماذا لا يهم سوى قلة قليلة من الستة ملايين مسلم الذين يعيشون في باريس؟ المشكل يكمن في تفسير آخر للظاهرة الجهادية في فرنسا... فهو يكمن في الغليان والهذيان الذين يصيبان أبناء الجيل الثاني الذين ولدوا في فرنسا أو أوتي بهم إلى فرنسا وهم أطفال، ثم ذلك الذي يصيب بعضا من الشباب الغربي الذي دخل إلى الإسلام. وهذا يعني مما يعنيه أنه من بين الراديكاليين لا يوجد ممثلون من الجيل الأول ولا حتى من الجيل الثالث، فالأجداد المغاربيون الذين وصلوا إلى فرنسا في السبعينات لا يجدون أحفادهم إرهابيين، كما أن أولئك الذين دخلوا إلى الإسلام لم يعانوا قط في حياتهم من العنصرية، ومع ذلك فالبعض القليل منهم يرتمون في أحضان الإرهاب للثأر وللإهانة التي تصيب بعض المناطق العربية الإسلامية، فلسنا إذن كما يخلص أوليفيي روا في مواجهة راديكالية الإسلام ولكن في أسلمة الراديكالية.
نحن في ثورة الأجيال: فالمجموعتان معا وبالأخص الجيل الثاني من الجالية المسلمة في الخارج تثور على الإرث الثقافي-الديني الموروث عن آبائهم، فيحدثون قطيعة شاملة معها وهي التي تربوا عليها في البيوتات، وليس عندهم مشكلة مع الحضارة الغربية، لأنهم يتحدثون الفرنسية أفضل من آبائهم، والبعض منهم كانوا لا يمارسون الشعائر الدينية بتفان ومواظبة، كما أن البعض الآخر قضى جزءا من حياته في السجون، ثم بعد عشية وضحاها أضحوا راديكاليين وأصبحوا يتبنون تصورا دينيا يلغي كل شيء، يدعون أنهم يحتكرون في ساعات قليلة الدين الحق، ويزعمون أنهم وحدهم على جادة الإيمان ليرموا غيرهم باتباع الباطل ويدعون أنهم كافرون بالله ملحدون بالدين، وان الجهاد جائز في كل مكان وضد كل من يدخل في إطار الجاهلية الأولى والكفر عندهم.
كما أن السبب الأصيل في هذا كله هو أن الموروث الثقافي الديني الوسطي المعتدل الذي حمله مهاجرو الجيل الأول لم يورثوه لأبنائهم (أي من الجيل الثاني) وأنا أخالف أوليفيي روا عندما وصف أبناء الجيل الثالث من أنهم معصومون من الفيروس الذي أصاب آباءهم (من الجيل الثاني) لأن نفس المسببات موجودة ونفس الأرضية التي لوثت أفئدتهم مازالت قائمة، كما أن أبناء الجيل الثاني سيلتقون مع أبنائهم في هذا الانشقاق الثقافي والانشقاق الجيلي والانشقاق السياسي، فالراديكالية هي المحرك وهي التي تتماشى في الأخير مع صميم التلوث الفكري الذي أصاب هاته الشريحة من الناس، وهي قلة قليلة جديدة ولا تعني البتة راديكالية الساكنة المسلمة المقيمة في فرنسا والدول الغربية.