د.فوزية أبو خالد
«إلى إشراقة نور وتوأمها عبدالله تجديداً لعهودي مع الحق والكرامة والجمال».
التقيت في فرح إحدى بنات صديقاتي قبل أسابيع عدة، السيدة موضي البكر، والتقيت بعدها السيدة منيرة السبيعي،
وهما سيدتان حظيت بتقديرهما عبر صداقة القلم وأفق القراءة وإن لم نلتقِ إلا قريبًا، وقبلهما التقيت ما لا يقل عن عشر سيدات، كانت كل منهن - وإن لم تقابلني من قبل - تذكر على وجه التحديد بكثير من الشجن والامتنان مقالات وقصائد كتبتها عن أمي، وكل منهن كانت تتمنى علي أن أكتب المزيد عن أمي؛ لأن كل واحدة كانت ربما ترى في صورة أمي مرايا أمها؛ ولهذا السبب ربما، وربما أيضاً لما تشعله سيرة تلك الملهمة المبصرة في روحي من أغصان وأنهار وسماوات الكلمات، يسألني الكثيرون والكثيرات لماذا لا أجمع ما كتبته عن أمي في كتاب. وهذا واحد من أهم مشاريع حياتي الذي أرجو ألا يُرجئه تهيبي منه إلى لحظة تسبقه منيتي. غير أنني لوعد قطعته على نفسي في كل مرة تفاجئني القارئات بإلحاح لمعاودة الكتابة عن أمي أقوم في مساحة مقالي اليوم - لو سمح رئيس التحرير - بمناسبة قدوم «نور البدر بن أحمد» إلى وجودي بالكتابة عن نور الأم تجديدًا لعهود أمي في خلايا دمي وفي مسارب روحي ومسام جسدي ونسيج أخيلتي. وأفعل ذلك بنشر بضعة أسئلة وُجّهت لي على مدار حياتي في محاولة لتقصي بصمات تلك النور على شبكية بصري وفي عناصر حبري وفي مصاب تنفسي دون جدوى.
السؤال الأول: من هي نور؟!
الجواب: هي امرأة تضيء المشكاة والشجر بزيت كفها، تضيء الصبح والصحو بشمس وجهها، تضيء الليل والأحلام بمصابيح سهرها، تضيء الظلام والمجهول بنور عقلها، تضيء الوحدة والتوق بدقات قلبها، تضيء الوجود بملكة الأمل، وتضيء الحياة بطاقة الحب.. نور اسم على مسمى، كأنها ما وُلدت إلا لتعيش تحدي اسمها.
السؤال الثاني: ما هو شغف أمك؟
الجواب: العلم، العلم، العلم؛ فقد كانت نور تتعلم من الطير، من الأطفال، من الحزن، من الفرح، من الصخر، من الحرير، من الحروب، ومن السلام، من قصاصات الخياطة، ومن دقات القلب أو حيرة العقول.. لم تفتها نشرة أخبار الصبح من «بي بي سي» قط منذ طفولتي. كانت قارئة للقرآن بتبتل وتأمل لم أره في سواها. وكانت قارئة للألم والأمل بامتياز لدرجة أن كل من عرفنا وما لم نعرف كان يقصدها كلما مر بتجربة تفقده حاسة البصر لقراءة هذين السفرين العظيمين الألم والأمل اللذين كانت تجيد أمي قراءاتهما بنبوءة نابغة، وتقرؤهما ببصيرة تهتك الحجب، وتعيد الإبصار للكفيف. كان شغفها العلم، العلم، العلم، العلم.. فلا يمر يوم على أمي وإن كانت مغموسة في المشاغل لما فوق غرتها دون أن تختم كتاباً في مواضيع تتعدد وتختلف، من الشعر إلى الفقه، ومن موسم الهجرة إلى الشمال إلى جنوبيات عبدالعزيز المشري. ومع كل هذا كانت تعتبر نفسها أمية، وإن كانت ذات بصيرة حادة في التمييز بين معين المعرفة والشهادات. كانت ترفع دفاترنا وكتبنا إلى شفتيها ونحن تلاميذ بالمدرسة، وتقول ارشفوا وعبوا واملؤوا عروقكم من كأس العلم التي حُرمنا منها. أول مرة قرأت طه حسين كان على يديها، فقد نادتني ذات مساء حالك وأنا حزينة ومتأثرة من جرحي الخاص الذي نكأته إحدى معلماتي، وألقت إلي بكتاب، وكأنها تلقي علي حلة من أجنحة، وقالت لي «خذي اقرئي وأشعلي لنا هذا القنديل بسيرة (قاهر الظلام)؛ لتعرفي لماذا أنت محظوظة بتحدي الإعاقة، وكم من السنوات الضوئية تستطيعين أن تقطعي، وكم من البحور والسماوات يمكن أن تعبري بقدم واحدة.
السؤال الثالث: ما هو عمل أمك؟
الجواب: الحقيقة أنني لم أر أمي يوماً في حياتي منذ طفولتي المبكرة بلا عمل على الإطلاق رغم رعايتها لبيتها، ورغم حملها وولادتها وتربيتها عدداً كبيراً جداً من الأطفال. كان الهدف من عمل والدتي في وقت مبكر التعاون مع أبي في توفير حياة كريمة للأسرة. وقد عملت أمي قبل رحيل أبي في العديد من المهن، وقامت بالعديد من الأعمال. عملت معلمة أطفال في منزلها، ومعلمة خياطة وتفصيل وتطريز للفتيات. عملت في خياطة الأثواب الرجالية، فكانت تأخذ من خياط الحي القماش، وتعيده قوالب مصبوبة من الثياب. عملت في تشجير الأقمشة؛ فكانت تبتاع الأقمشة السادة، وتقوم بصبغها بألوان متعددة على شكل وردود وفراشات، أو تطرزها باللؤلؤ، بل إنها حين كنت بالخامسة ابتدائي فتحت مركزاً لتدريب الفتيات على تصميم الأزياء وحياكتها. وعملت في تدريب بعض السيدات على تمارين علاجية لشلل الأطفال مما كانت قد تعلمته في بيروت من تجربة خاصة خاضت آلامها بهذا الشأن؛ فأرادت أن تقوم بتعليم بعض السيدات مقاومة الاستسلام لذلك المرض. فتحت أول بقالة على طريقة مصغرة للسوبر ماركت في الشرفية مقابل الإسكان العام في السبعينيات الميلادية. وقصة هذه البقالة بحد ذاتها قصة تحدٍّ وكفاح ومرح في آن. لم تكن أمي صاحبة البقالة وحسب، بل كانت صبيها وممولها ومحاسبها والبياع فيها وجلاب بضائعها وعامل النظافة فيها.. كل ذلك بمساعدة حفنة من الصبايا والصبيان الصغار بعد الظهر فقط. وكانت تصحو والنجمة لا تزال في السماء، وتنبري قدماها وهي تقطع الطريق مشياً لتحضر البضائع من محال الجملة بباب مكة والبلد والصحيفة والكندرة، وكانت البقالة مع ذلك تفتح أبوابها لاستقبال زبائنها بشارع التوبة بجدة في الساعة الثامنة تماماً؛ لتكون في استقبال العمال الفرنسيين الذين كانوا يعملون وقتها في أعمال البناء الضخم من «عمائر الإسكان» على مدخل ذلك الشارع، وكانت أمي تقف على «الكاشير» بعباءتها طوال سحابة النهار إلى أن يعود البنات والأبناء من المدارس فيتناوبون على المحاسبة وخدمة الزبائن من حين إلى آخر، بما لا يخل بجدول المذاكرة التي كانت بالنسبة لها مواعيد مقدسة. لقد شهدت بكل جوارحي تلك المرحلة حين كانت تدق الساعة الثانية بعد منتصف الليل وأمي لا تزال منغمسة في إعداد علب اللبنة واللبن وبرطمانات المربى/ سفرجل وعنب ورمان وتين من فواكه البيئة؛ وذلك لتوفر شراء البضائع المصنعة بالخارج، ولتسهم بإنتاج وطنين صنع يدها.
السؤال الرابع: ما قصة موقف أمك من تحدي الإعاقة؟
الجواب: لولا جبروت أمي وما تعهدتني به من تمارين التحدي يومياً منذ نعومة أناملي لكنت أقبع اليوم في زاوية أندب حظي كفرس مهيض الجناح. أما بفضل الله ثم بفضل تلك السيدة المبصرة فقد جبت العالم، وعبرت القارات السبع بجسدي أو بإنتاجي الشعري والعلمي نظير مواظبتها في طفولتي على منازلة العجز بضراوة وإصرار. لم تُخل أمي يوماً بمواعيد الرياضة التي كنت أحتاج إليها في طفولتي لتمارين قدمي بهدف التغلب على شلل الأطفال. كانت تمرنني في جلستين، جلسة في الصباح، وأخرى في المساء، إلى أن أرى العَرَق يلتمع على وجهها، ويتفصد من عروق رقبتها وهي تنحني على جسدي الصغير، ثم تدعني أتسلق قامتها إلى أن أقف على قدمي في الهواء في حركات تشبه مدات «الباليه أو اليوجا» الشاهقة، حتى صارت مشاركتي ساعة «التريض» موعد مرح وتمارين لتحرير الروح لكل فرد في الأسرة إلى أن تخرجت من المرحلة الثانوية، وغادرت بيتنا وبلدي لأبدأ دراستي الجامعية بالخارج.
وهنا تتوقف بنت نور عن الحفر في سيرة نور الأم؛ لتذهب لكتابة صفحة تجديدية من كتاب المستقبل عن نور الابنة.