د.فوزية أبو خالد
-1-
أطلق عقد مؤتمر القمة العربي اللاتيني ذائقتي الأدبية وذكرياتي الشبابية يوم كنت طالبة جامعية بأمريكا، وحسي السياسي الملتهب دائما، خاصة ما بعد تشظي أحلام وشعوب ودول المنطقة فيما يمكن تسميته الربيع والعقاب على وزن رائعة دوستفيسكي الجريمة والعقاب..
..أو الربيع والحرب كرائعة تولستوي السلام والحرب, قبل أن تتحول روسيا إلى طرف ميداني خصيم لذلك التاريخ الروائي المتمرد على عقف الإرادة الشخصية والسياسية للأفراد والمجتمعات.
-2-
موقف طالباتي الجامعيات من جيل الإنترنيت وجوجال وتوتر وسناب شات والباث وفيس بووك من المؤتمر, لم يكن لمفاجأتي وربما لمفاجأة بعض القراء بسبب القطيعة الثقافية بيننا وبين شعوب العالم أو بين شعوب العالم وبيننا إذ إنني لا أتوقع أن طلاب أمريكا اللاتينية الأمريكية يعرفون عنا أكثر مما يعرف طلابنا عنهم ولكنه كان كما اتضح لي من إجابات الطالبات بسبب ذلك القدر من الانقياد السياسي (عاطفيا وعقليا) إما للنقيض أو ضده تماما.
فأما الذي يجعل جيلا شابا وأوطانه تمر بهذه الحالة الخطيرة من الانزلاق نحو العدم لا يرى من قوى العالم ومن تنوع حضاراته إلا قوى الغرب الأوروبي وأمريكا الشمالية كرمز للخير المطلق أو للشر المطلق مما يجعل تلك القوى دون سواها مصدر جاذبية العشق الأعمى أو العكس.
ولهذا فقد عملت ما وسعني أضعف الإيمان لحظتها وهو الوقوف مع طالباتي على لمحة خاطفة مما تعنيه أمريكا اللاتينية.
-3-
فأمريكا اللاتينية بالنسبة لي شخصيا وربما لقطاع عريض من جيلي عبر العالم العربي إن لم يكن عبر العالم. ليست دول الاتحاد اللاتيني الحاضرة في مؤتمر الرياض اليوم, البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وتشيلي الأورجواي وبوليفيا وكولومبيا والإكوادور وجويانا وسورينام وغويانا وبيرو، و(بورجواي إن رفع عنها حظر العضوية في الاتحاد)، وحسب. وهي ليست أمريكا اللاتينية الممتدة جغرافيا بين أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى المشتملة على المكسيك وكيوبا والسفادور وجواتيملا ونيكارجو والدومينكان وكوستاريكو وبورتوريكو وبيرو وبنما ولكنها القارة، قارة أمريكا الجنوبية، أمريكا الحضارة اللاتينية بإرثها المشترك مع العالم العربي في مقاومة الاستعمار ورفض محو الهوية القومية وبشرك الذاكرة التخيلية لألف ليلة وليلة. وهي أمريكا الجار الغريم لإدارات البيت الأبيض بأمريكا الشمالية على تعاقب رؤساء واشنطن على الرغم من الهوة الحضارية الواسعة بين دول الشمال ودول الجنوب أي ما كان ما يسمى بالدول المتقدمة ودول العالم الثالث. وقد استمرت تلك العلاقة الملتبسة بين أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية بطوال تاريخ التداول الثنائي المغلق للسلطة بين الحزب الجمهوري والديموقراطي في الأخيرة وحتى بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها وخفت حدة تنافس القوى العظمى على مناطق النفوذ في العالم أو اتخاذ ذلك التنافس مجرى وصيغ جديدة له. وإذا كان مجرى الحدث السياسي ومجرى التحولات التاريخية كثيرا ما يحرك دولا ويضع دولا أخرى في مواضع مختلفة على رقعة الشطرنج العالمي في مد وجزر علاقات القوى الدولية والمحلية، فإن أمريكا اللاتينية على الرغم مما قد أصبح تاريخا بما كانت تعنيه على الخارطة الدولية وخصوصا لقوى الشباب والحركات الطليعية كرمز الثورات الشعبية اليسارية وللمواجهة بين أشواق الشعوب للعدالة والتغيير وبين قوى الاستحواذ والهيمنة، فإنها حافظت على وهج وجداني وفكري على مستوى عالمي. تمثل هذا الوهج في الحضور اللاتيني الحضاري لأمريكا الثورات الإبداعية في الموسيقى والأدب والشعر والواقعية السحرية للرواية وفن السرد. وفي الفكر الفلسفي والفكر السياسي والسيسيولوجي والاقتصادي.
فغير أن استقلال أغلب دول أمريكا اللاتينية عن الاستعمار قد أنجز من العام 1820 فإن مسارات هيمنة ما بعد الاستعمار وظهور الدكتاتوريات العسكرية وجدل المقاومة الشعبية والنخب الطليعية لتلك الدكتاتوريات على امتداد القرن العشرين قد أنجز لاتينيا نظريات التبعية والتنمية وتفرعاتها العديدة ومنها نظرية المركز والأطراف والتنمية اللامتكافئة التي كانت تنطلق في قراءتها للفشل الاقتصادي وفشل التحول الديموقراطي إلى ارتباط التقدم الرأسمالي الإمبريالي باستمرار التخلف الاقتصادي والسياسي لما عرف بالعالم الثالث. وكان من أسماء ذلك التنظير إلى ما بعد منتصف القرن العشرين -على سبيل المثال- كل من فراناندو هنريك كاردوز وأينزو فاليتو، كايو براد وجونزاليزا، سيلز برييش, كازنوفا وسيريجو باجو من جامعات البرازيل وتشيلي والمكسيك وقد امتد أثرهم إلى اقتصاديين عرب مؤثرين مثل تنظيرات سمير أمين عن التبعية والتخلف ومريده وتلميذه برهان غليون.
وفي هذا فقد كان ذلك التنظير وخاصة ما بدأ منه من خمسينات القرن الفارط تمهيدا لانطلاق الفكر النقدي لهيمنة الفكر الغربي بصيغة النقد «الاستشراقي» وصيغة نقد ما بعد الحداثة. (مع الاعتذار للتبسيط الذي قد يكون مخلا).
-4-
أما على صعيد الإبداع اللاتيني الأدبي لقارة أمريكا الجنوبية، فقد كانت أول مرة أعرف فيها باسم شاعرة تفوز بجائزة نوبل من خارج العالم الغربي هو يوم تعرفت على شعر الكاتبة التشيلية جبريلا ميسترال التي يرجع تاريخ فوزها بتلك الجائزة إلى العام 1945، إلا أن عشقي وجيل عريض حتى من جيل شباب اليوم مازال مستمرا لنجوم الأمس واليوم من كتاب أمريكا اللاتينية ومنهم على سبيل المثال ليس إلا صاحب رواية ليس للكونيل من يكاتبه ومئة عام من العزلة جابريل جارثيا مركيز وبنت الحظ إيزابيل الليندي وخوسيه أوستاسيو والفونسينا ستورني وبورخس، وكانديرا, ورومولو جايجوس وصاحب المكتبة في الليل البرتو منغويل وبولو كويلو صاحب الكيميائي أو الخميائي.
-5-
ولهذا فنحن نرى أن مؤتمر إسبا وحده لا يكفي لتنشيط علاقة الجنوب بالجنوب فعلي أهمية مؤتمر الرياض للعرب وأمريكا اللاتينية في إيجاد أشكال جديدة للعلاقات الاقتصادية والسياسية خاصة وفي كل منهما قضايا عالقة تستحق التآزر ليس أولها ولا آخرها جزيرة الفوكلاند ولا جزر الإمارات ولا حدية الصعود والتراجع الاقتصادي.
وهذا يطرح توجيه الأنظار لضرورة فتح مسار لعلاقات على مستوى الشعوب ومؤسسات الفكر والإبداع من الجامعات إلى ملاعب الكرة.
هناك القطيعة الثقافية بيننا وبين شعوب العالم أو بين شعوب العالم وبيننا إذ إنني لا أتوقع أن طلاب أمريكا اللاتينية الأمريكية يعرفون عنا أكثر مما يعرف طلابنا عنهم تماما في الموقف من سلطة الغرب وأمريكا تحديداً التي تجعل جيلا شابا لا يشعر وأوطانه تمر بهذه الحالة الخطيرة من الانزلاق نحو العدم لا يرى سوى تلك المنطقة من العالم أمريكا الشمالية والغرب كرمز للخير المطلق أو للشر المطلق.