د.فوزية أبو خالد
جاء بعد هجمات باريس عبر إحدى مجموعات الواتساب المستنيرة من أستاذة جامعية متميزة صورة تثير التساؤل، لم أتوقعها في هذه المجموعة، ولا من تلك الأستاذة. فالصورة مكتوبة عن ذلك الكم الكبير من الوحشية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي بالمغرب العربي، خاصة إبان فترة احتلاله للجزائر..
.. ما وصل إلى مئة واثنين وثلاثين عاماً. وقد جاء سرد تلك الأفعال اللاإنسانية بأسلوب يجمع بين السادية والماشوسية في الكيفية التي تم بها تصفية مليون شهيد، والكيفية التي جرى بها إغراق وإلقاء كل محمدي في نهر السين بما سمي بصباح الأحذية؛ إذ في اليوم التالي للحادثة غطت أحذية مَنْ غرقوا وجه النهر. ومع معرفتي حق المعرفة بالقيمة النوعية لتلك المجموعة، وبالقامة السامقة لتلك الأستاذة، فقد راعني ما أرى. وقد كتبت من لحظتها رداً قلت فيه من وجهة نظري إن من غير اللائق إنسانياً في هذه اللحظة مثل هذا التأجيج الذي تفوح منه رائحة التشفي، الذي قد يشتم منه نوع وإن كان خفياً من التشجيع لمثل هذا الفعل الداعشي المتوحش. فإن كان ليس المطلوب أن نمحو تاريخنا وما مر عليه من وحشة الاستعمار ووحشيته الفرنسي والبريطاني، والصهيوني الإسرائيلي خاصة، فإن الحديث عن ذلك لا يأتي مطلقاً (باستثناء التوحش الإسرائيلي المستمر) في هذا السياق، أي سياق الهجمات الهمجية على باريس. وقد ذكرت كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضرب مثلاً شاهقاً وخالداً في الصفح من موقف عزة بعد فتح مكة عندما قال لمن آذوه في نفسه ودينه وهجّروه عن دياره «اذهبوا فأنتم الطلقاء». فما بالنا نريد أن ننتقم عن ضعة وليس عن عزة، أو نبطن تأييد الانتقام من ديار سمحت ديمقراطيتها ببناء مساجدنا بها، ومن أحفاد من ألحقوا ببلادنا أذى، كان يمكن لنا أن نخرج عليه بعد خروجهم من أوطاننا، ولكننا لم نفعل، ونكلنا بأنفسنا مثلما نكلوا بنا وأكثر.
إن الموقف المبدئي والأساسيات الأخلاقية لا تكون فقط بتطبيقها على أنفسنا، ومنعها عمن سوانا. وإدانة الغدر والغيلة وقتل المدنيين العزل ومن لا يقفون ضدنا في هذه اللحظة في موقف قتال من المواقف المبدئية والأساسية التي يجب أن نقرها للغير كما نريد أن نقرها لأنفسنا.
وقد لاحظت سيلاً لافتاً لمنطق مماثل لصور إما مكتوبة أو صور كاميرا ولقطات ضوئية على جميع وسائل الاتصال من (فيسبوك لتويتر لواتساب)، وسواها.
الخطير أن مثل تلك المواقف التي تخونها الرؤية، ولا تحكم الميزان المبدئي على الغير مثلما تريده لنفسها، تتكرر في كل حادث مشابه، إلا أن الأخطر أن ذلك لا يدل فقط على خلل في علاقتنا بالغرب بما يتقاسم مسؤوليته في ذلك معنا، ولكنه بالنسبة لنا تحديداً يدل على أن هناك خللاً عاطفياً وربما فكرياً أيضاً في موضوعيتنا الإنسانية وفي ميزان العدل والعقلانية مما يفترض أن نحتكم إليهما في النظر للموضوع. فالأولى والصحيح ألا نحكم على المواقف من منظور شخصاني لنؤيد أو ندين حسب من يقف خلف الجريمة، وحسب من ضحيتها، وذلك ببساطة فطرية؛ لأن الجريمة هي الجريمة أياً كان فاعلها أو ضحيتها.
وأختم بذلك الدعاء الشفيف في قول «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا شجاعة التعبير عنه واتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا قوة الاعتراف به واجتنابه».
*****
لئلا يتحول الشباب إلى وقود في حروب غير عادلة
من الواضح أن المنطقة تقف أمام تحدٍّ سياسي وعسكري كبير، يتمثل في «حالة هي مزيج من انكساراتنا الذاتية وتعالقنا الماضوي وعداوتنا التاريخية وأطماع الآخرين بنا مع الكثير من انعدام الخيال الخلاق وغير القليل من التدخل الاستخباراتي المتعدد والفقر المدقع إلى رؤية نقدية والخوف المرضي من الإصلاح السياسي الجاد ومن التعدد وتداول السلطة السلمي». وما يرفع من معدل هذا التحدي لمستوى الخطر الأمني على السلم الأهلي وعلى المصير الوطني أن تلك الحالة قد أنتجت عدواً، يعول على استخدام أكثر القوى الاجتماعية حيوية، وهم الشباب, وأشد العواطف قابلية للاشتعال، وهي العاطفة الدينية. وذلك بالعمل على تلوين أجندته السياسية بألوان مذهبية، تقوم على تجييش العاطفة الدينية وعلى إهانة العقل وعلى استغلال التناقضات السياسية والاجتماعية داخل البنى السياسية والاجتماعية التي يريد تفتيتها لبلوغ ما يمكن أن نسميه «مرحلة الأنقاض». فعلى غير الأنقاض لا يمكن للأعداء على اختلاف هوياتهم وتقارب أهدافهم وتناقضاتهم السياسية إعادة الترسيم الجغرافي وتغيير المسار التاريخي وتحويل أي بصيص بحلم الحرية والكرامة إلى كوابيس في ظل الظلام الدامس لأعتى أشكال الاستبداد المتمثلة ليس فقط في الاستفراد بالسلطة بل الاستفراد بالفكر والدين وبأقدار الحياة والموت.
فما داعش بدون الشباب، شباب التشات، وشباب السيبر، وشباب الألعاب الإلكترونية العدوانية، وشباب الاستراحات المغلقة، وشباب السخط المكبوت، وشباب التهميش السياسي، وشباب الاغتراب الوطني، وشباب استفزاز قوى الهيمنة الخارجية، وشباب ذل التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وشباب الارتزاق، وشباب الطاعة العمياء، وشباب البطالة، وشباب البحث عن بطولة أو قدوة، وشباب خيبة الربيع العربي، وشباب الفراغ واللاقضية، وشباب التعصب القبلي والمناطقي والديني، وشباب التأجيج الطائفي، وشباب التمايز الطبقي، وشباب معاداة العقل، وشباب الأخيلة الغيبية وفشل الخيال الاجتماعي والسياسي الخلاق.
وهذه العينة من الشباب المختطف كرهاً أو رغبة، وإن جاءت متوالية جرائم المساجد في السعودية والكويت الأخيرة بأيدٍ سعودية منهم، فهم متناثرون على اتساع الخارطة الدولية لمختلف الدول ومن مختلف القارات. وهم إذ يختلفون في التكوين والأهداف والوعاء المعرفي عن تلك الصيحات الشبابية العريضة المتمردة على شراسة الرأسمالية التي راجت بأوروبا وأمريكا الشمالية نهاية الستينيات والسبعينيات كصيحة الهيبيز، فإنهم يتشابهون في تشرذمهم واجتثاثهم من سياق الرشد العام مع أمثلة متطرفة للتعصب السياسي والعرقي والديني مما لا ينشط تاريخياً إلا في مراحل الاستبداد والظلام كالفاشية والنازية. على أن منسوب نصيب الشباب المختطف من تعقيدات تلك الأوضاع التي دفعت بهم لأحضان داعش يختلف من بلد لآخر، بل من شاب لآخر, بما يجعل لكل مجتمع حكايته الخاصة، وإن تقاطعت مع مجتمعات أخرى في الأسباب والدوافع، وفي الواقع السياسي والاجتماعي، وفي حاضنة الفكر والسائد الثقافي والسياق التاريخي الذي هُيئ لوجود ميل أو استعداد لتقبل داعش أو للتحول إلى حطب في حرائقها.
سؤال محرج ولكنه من نوع ضرورة وضع الإصبع على الجرح.