د.فوزية أبو خالد
-1-
لم يكن ممكناً إلا أن أكتب في كارثة باريس؛ فقد شعرت بأن الموضوع أعمق وأفدح من أن يكتفى فيه بما كُتب، وما كُتب كثير. فالموقف لا يحتمل التعامل معه كفرض الكفاية الذي إذا أداه البعض سقط عن البعض الآخر. فمقتل أبرياء فرنسا في مجزرة متعمدة أمر مرعب وموجع وفاجع، مثل سحق أطفال فلسطين كيرقات عزلاء..
.. مثل اقتناص صبايا العراق كفراشات نار، ومثل موت الجدات في سوريا كخرق بالية، مثل إجهاض الأمهات رعباً ببرج البراجنة ببيروت، مثل تفرفط الفتيان على الأرصفة بأفغانستان، مثل استهداف أرواح في عز الشباب بتركيا، مثل احتراق المدنيين المدمي في نيويورك، ومثل نوافير دم المصلين في الكويت والدلوة ونجران، ومثل تجريف تلك الفتاة الأمريكية راشيل على يد الإرهاب الصهيوني وكأنها مجرد حفنة تراب، ومثل طياش الدم السوري على السواحل وطمس الأحياء تحت الأنقاض.
إن هذه الهجمة الكارثية على باريس في فعلها الإجرامي الدنيء، وبتطاولها على واحدة من العواصم التي ترمز للتنوير وللحرية وللفن وللجمال، تعني كل إنسان سوي بشكل فردي وشخصي بقدر ما تعنيه بشكل جمعي وعام. فلم يعد أحد بمنأى عن همجية الهجمات، ولا عن الهجمات الهمجية، لا أسود ولا أبيض، ولا مسلم ولا مسيحي، ولا امرأة ولا رجل ولا طفل أو يافع أو مسن. لم يعد من مكان آمن من كمائنها الخانقة لا نيويورك ولا بيروت ولا باريس ولا الرياض ولا إسطنبول ولا الكويت ولا نجران، لا القدس ولا غزة ولا بنغازي أو تعز.
ليس في وارد الإرهاب البربري مهما تعددت أسماؤه أو تلونت أقنعته حرمة لأوقات العبادة ولا لأوقات الراحة ولا لأوقات النوم أو العمل, لا يوم جمعة ولا صباح عيد، لا رمضان لا أشهر حرم ولا سنوات سلام، لا ليل ولا نهار.. فكل الأوقات وكل لحظة قابلة للقصف وقابلة للتدمير وقابلة للنهش والانتقام.. ليس في عرف هذه الحرب الهولكية الهتلرية المنفلتة في كل اتجاه وفي اللااتجاه كحريق مجنون حرمة لأماكن العبادة كالمساجد، ولا لأماكن عامة لترفيه بريء كمسرح أو ملعب كرة، ولا لمواقع اكتظاظ المدنيين كالحافلات والأسواق والمدارس، ولا للضواحي ولا الأحياء ولا المدن. فليس في شرعة أحراش الشر المتنقلة من قارة لقارة إلا استهداف الحس الإنساني والحس الجمالي والحس الإبداعي بأبشع أشكال القتل أينما كان، وكيفما وجد. لذلك لم يكن إلا مشهداً رمزياً استهداف مدينة النور بتلك الحلكة العمياء اللامتناهية من الظلام، لم يكن إلا مشهداً رمزياً قنص ابتسامة المنوليزا وتناثر أجنحة لوحات اللوفر وتطاير ريش مركز جورج بمبيدو سنتر وتكسر أصابع القانون والبيانو وأوتار الكمنجات والقيثار والعود في دار الأوبرا وتحطم منحوتة هندسة الروح على مدخل المركز الثقافي العربي.. لم يكن تجمد الدم في قصائد أراجون ووقوف الهواء في حنجرة أديث بف وإليزيه إلا محاولة لإصابة أمل القضاء على الإرهاب في مقتل.
لم يبدُ أن هذا الإرهاب البواح يقنع بأقل من توزيع المنايا في كؤوس من زؤام على جان جاك روسو, فلوبير، بلزاك، مانيه، آن جيراردو، فوكو، دي بوفوار، فولتير, فيكتور هيجو، كلود سيمون, صمويل بيكيت، سان جون بيرس، أندريه جيد, جورج صاند، موليير، مالارميه, سارتر، كوكتو، كلود ليفي ستراوس, أميل دوركايم, كانت، أوجست كونت، بيير بوردو، جوليا كريستيفا, مكسيم رادينسون, روجيه جارودي، جاك دريدا, جان بيجيه وجان جاك. ومثل كل حروب الاجتثاث لم يكن يعني وحش الإرهاب التحقيب التاريخي ولا التمرحل الإبيستمولوجي ولا التفريق بين مؤسسي علم الاجتماع ولا فلاسفة التنوير ولا رواية مدام بوفاري ولا ملحمة البؤساء ولا رموز التفكيكية ولا موسيقى شوبان ولا أسطرة جان دارك ولا فيلم لا شوكلاااه ولا عمل مدام كوري كأول أستاذة بجامعة السوربون بعد فوزها بجائزة نوبل مرتين. فهذه التفاصيل ليست في شرعة وحوش الغاب أغلى ولا أقل استحقاقاً للقتل رمياً بالرصاص الحي والأحزمة الناسفة من تفكيك معمار تدمر واغتيال آثار بابل وإعدام الحروف السومارية أول أبجدية كتب بها الإنسان في التاريخ البشري, شنقاً على رؤوس الأشهاد.
-2-
كلنا معنيون بكارثة الإرهاب، وإن كان ليس بالضرورة أننا جميعاً مسؤولون عن كارثة الإرهاب فإننا في مواقعنا المختلفة مسؤولون عن مقاومة الإرهاب. المعلم والكاتب والإعلامي والأب والأم والحاكم والمحكوم السياسي ورجل الأمن والفقيه والوزير والأجير وجميع القوى الاجتماعية، خاصة الشباب، كلنا متورطون في هذه المسؤولية. يقابل ذلك مسؤولية وطنية وإقليمية ودولية لم يعد خيار التخلي عنها خياراً لأي طرف من الأطراف لا الداني ولا القاصي منها. فمواجهة الإرهاب تقتضي عدم الحياد، وتقتضي في نفس الوقت عدم الانحياز لإرهاب على إرهاب أو التذبذب بين التهاون وبين الاستنكار في التصدي للإرهاب بحسب هوية الضحايا وليس لموقف مبدئي ضد كل مصادر وأشكال الإرهاب وأياً كان الضحايا أو المستهدفين.
وإن كان هناك من لا يزال يتحفظ على غياب فهم مشترك لمعنى الإرهاب كما يتحفظ على عدم التوصل إلى سك مصطلح جامع مانع لتعريف الإرهاب، فإن هذا لا يعني أن ننتظر لريثما يتوصل التنظير الأكاديمي لمعنى قاطع للإرهاب أو لريثما يخرج علينا الفقه السياسي بتعريف شامل للإرهاب، بينما نتجاهل تراكم خبراتنا اليومية الجارحة والنازفة عبر القارات وفي هذه المنطقة المنكوبة من العالم تحديداً في معاناة الإرهاب بمعناه التوحشي في جرائم القتل وتفكيك الأوطان.
قد يظهر الإرهاب بأكثر من هيئة، وقد يتكئ على غير مرجعية فيرتدي لبوساً سياسياً أو مذهبياً أو دينياً، وقد تختلف آليات فتكه من الأحزمة الناسفة إلى قنابل النابلم ومن براميل المحاليل الكيماوية الماحية لملامح الأطفال إلى السيارات المفخخة، وقد تمد شجرته الوحشية أذرعها الشريرة نحو ضحية محددة بشكل منظم مثل دولة إسرائيل، أو قد تأتي بشكل عشوائي مع تعدد عداواتها وجبهات تصفياتها مثل داعش ومليشيات إيران وبوكو حرام، لكن ذلك لا يغير من مشترك طبيعة الإرهاب أياً كان مسماه، المبنية على الظلم والظلامية معاً. كما أنه لا يغير من مشترك أهداف الإرهاب الرامية إلى نسف القيم الأخلاقية والسياسية والإنسانية وانتهاكها دون هوادة أو تمييز من قيم الديمقراطية والكرامة والشيمة والإباء إلى قيمة حرمة النفس البشرية التي حرم الله المساس بها دون وجه حق. ولننتظر ما قد تتخذه فرنسا من إجراءات قانونية داخلها تتماس مع المكتسب التاريخي من الحريات، خاصة فيما يخص حركة الجاليات وحرية معتقدها وتفكيرها وتعبيرها مما بدأت بوادره بإعلانها قانون الطوارئ.
فالإرهاب الذي اكتوت بناره المجتمعات النامية تاريخياً على يد أشكال من الاستعمار، وعلى رأسها الاستعمار الاستيطاني لفلسطين تاريخياً، وتتجرعه اليوم المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بيد ديكتاتوريات فيها تارة، وبأيد آثمة من بعض أبنائها المتشابكة مع أيد ملطخة بجرائم استخبارية وجنائية وقتالية، هو نفسه الإرهاب في أهدافه التصفوية وفي شهوة التدمير والخراب وقتل الروح وغيلة الجسد الذي تحول اليوم إلى إرهاب «محمول» عابر القارات والحدود متحدياً منعة الدول وحرمة الشعوب. غير أنه إذا كان من المتوقع أن تقوم فرنسا اليوم وقد يدخل معها الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بقوة مع عدد كبير من دول المجتمع الدولي المؤثرة في تغيير تلك الاستراتيجية المترددة في التعامل مع الإرهاب تعاملاً تجفيفياً واجتثاثياً كرد على وصول الإرهاب لبوابة الإليزيه وقوس الشانزلزيه وبرج إيفل, فإن تحدينا نحن العريض والعويص والمعقد هو كيف يبني المجتمع العربي والإسلامي استراتيجية وآليات على مستوى سياسي وفكري وأمني لمواجهة إنتاج منطقتنا لهذا النوع من الإرهاب، فذلك هو الخلاص الوحيد لإنقاذ أنفسنا وشبابنا وأوطاننا وفك حبل الإرهاب الملفوف على حبالنا الشوكية وأعناقنا. التحدي أيضاً هو كيف نصل إلى مصداقية في الشراكات العالمية لنا بمواجهة هذا الإرهاب عندنا وليس عند وصوله إليهم وحسب، فهو خطر خاص وعام ماحق على مستوى وطني ودولي، وهذا ما يتطلب مسؤولية مشتركة في وضع حد نهائي له.