د. محمد البشر
لقد أشبع الناس صفحات الكتب دندنة حول المتنبئ، وربما يكون أكثر من كتب عنه من الشعراء، القدماء والمحدثون، ومازال الناس يسطرون حوله السطور، وينثرون العطور، أو ينعتونه بأقسى الكلمات، وأن مئاله إلى الثبور، وهكذا كان وسيظل، وهو القائل:
وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي
إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً
فَسارَ بِهِ مَن لا يَسيرُ مُشَمِّرا
َغَنّى بِهِ مَن لا يُغَنّي مُغَرِّدا
والثعالبي والنيسابوري قال فيه: فليس اليوم مجلس الدرس، أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس، ولا أقلام كتاب الرسائل، أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحوم المغني والقوالين، أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين. وقد ألفت الكتب في تفسيره، وحل مشاكل عويصة، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه، وتفرقوا فرقا في مدحه والقدح فيه والنضح عنه، والتعصب له وعليه، وذلك أول دليل دل على وفور فضله، وتقدم قدمه، وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي، ورق المعاني، فالكامل من عددت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته (ومازالت الأقلام تهجي وتمدح).
وفي ابتداء أمره مدح علي بن منصور الحاجب بقصيدة أولها:
بِأَبي الشُموسُ الجانِحاتُ غَوارِبا
اللابِساتُ مِنَ الحَريرِ جَلابِبا
لكن الحاجب مع كل أسف لم تكن لديه الفراسة الكافية ليتوقع نبوغ الشاعر المبتدئ، فأعطاه دينارا واحدا إمعان في التحقير فسميت الدينارية
ولكن بعد مدة من الزمن، انخرط في سلك سيف الدولة، وأصبح شاعره المميز الذي أشهر وخلد ذكره حتى هذا اليوم، وإلا لكان سيف الدولة مجهولا كغيره، وكما نال سيف الدولة الشهد بمدح المتنبئ له، فقد نال كافور الشهرة بذم المتنبئ له، وبعد أن كثر ماله.
وأجمل له سيف الدولة العطاء قال:
تَرَكْتُ السُّرَى خَلفي لمَنْ قَلّ مالُه
وَأنعَلْتُ أفراسي بنُعْماكَ عَسجَدَا
وَقَيّدْتُ نَفْسِي في ذَرَاكَ مَحَبّةً
وَمَنْ وَجَدَ الإحْسانَ قَيْداً تَقَيّدَا
ولما قال قصيدة التي قال فيها:
ما كانَ نَوْميَ إلاّ فَوْقَ مَعْرِفَتي
بأنّ رَأيَكَ لا يُؤتَى مِنَ الزَّلَلِ
أقِلْ أنِلْ أقْطِعِ احملْ علِّ سلِّ أعد
زِدْ هشِّ بشِّ تفضّلْ أدنِ سُرَّ صِلِ
وقع تحت أقل : قد أقلناك، وتحت أنِلْ : يحمل له من الدراهم كذا، وتحت أقطع: قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة ببلاد حلب، وتحت احملْ: يقاد إليه الفرس الفلاني، وتحت علِّ: قد فعلنا، وتحت سلِّ: قد فعلنا فاسل، وتحت أعد: أعدناك إلى حالك من حسن رأينا، وتحت زِدْ: يزاد كذا، وتحت تفضّلْ : قد فعلنا، وتحت أدنِ: قد أديناك، وتحت سُرّ: قد سررناك، وتحت صِلِ: قد فعلنا.
ومع هذا كله فإن المتنبئ قال: إنما أردت سر من السريه، أي أنه لم يكتف بما منحه سيف الدولة بسبب بيت من الشعر، فطلب سريه، فأمر له بجارية.
ومع براعته، فقد كتب البعض عن سرقاته وتكرار المعنى الواحد في شعره، وقبع الطالع كقوله لملك أراد أن يلقاه لأول مرة:
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا
وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
فهل يعقل أن يبدأ شاعر بالموت ليمدح الممدوح ؟ وأخذوا عليه تعقيد المعنى، وعسف اللغة والإعراب، والخروج عن الوزن، و استعمال الغريب الوحشي مثل قوله: الشمس تشرق والسحاب كنهورا، كنهورا: القطع من السحاب العظيمة، فلا أظن أن هناك من يعرف كنهورا، أو يستعملها سواء في الماض أو الحاضر، مع أنها لفظ عربي صحيح ، ومنها الإفراط في المبالغة كقوله:
وأعجب منك كيفَ قَدَرْتَ تَنْشاَ
وقد أعطيت في المهد الكمالا
وأُقسِمُ لو صَلَحْتَ يمينَ شيءٍ
لما صلَح العبادُ له شِمالاَ
إنها حقا مبالغة مفرطة، وإن كان قد سبقه ولحقه في ذلك بعض الشعراء.
ودعونا نخفف ذلك النقد لشاعر الدنيا، لنقف عند ما قال من جميل سبك في نساء البادية، وهو الذي أخذه أبوه في صباه إلى هناك ليرشف زلال اللغة من معدنها الأصلي، ولكنه عاش شبابه وباقي حياته في الحضر . ومما قال في نساء الباديه تلك القصيدة المشهورة التي منها:
حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ
وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجلوبِ
أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها
مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ
وَلا بَرَزنَ مِنَ الحَمّامِ ماثِلَةً
أَوراكُهُنَّ صَقيلاتِ العَراقيبِ
هكذا يصفهن، ويميزهن عن بنات الحضر اللاتي لا يمكنهن جلب الحسن إلا بتطرية، ووضع المساحيق، التفرنج بالكلام، وصبغ الحواجب، وزيارة الحمام للتقشير، ومن ثم الخروج منه متمايلات عراقبهن صقيلات.
ثم يستطرد قائلاً:
ومن هوى كل من ليست مموهةً
تركت لون مشيبي غير مخضوبِ
ومن هوى الصدق في قولي وعادتهِ
رغبت عن شعرٍ في الوجه مكذوبِ
فهو هناك قد ترك الخضاب، وأبقى شعره أبيضا، وذلك تمشيا مع ما هواه من أفعال نساء البادية دون تمويه، ولأنهن صادقات في إظهار زينتهن، فقد سار على ذلك النهج ولم يقبل أن يجعل شعر وجهه ذا لون مكذوب هكذا قال المتنبئ في نساء البادية، وهو ابن الحاضرة، والساكن فيها، وحتى لا يقول أحد إن أوردت ذلك لشيء في نفسي فأنا لست بدويا، وزوجتي ليست بدوية، وبذا فإن القائل والناقل قد تحرروا من الهوى فقد يكون القول أقرب للواقع.