د. محمد البشر
تزخر كتب التاريخ الأندلسي باصطلاح «المولدون» فبعد أن دلف العرب والبربر إلى الجزيرة الإيبيريه، واستطاعوا السيطرة على إسبانيا والبرتغال معًا حتى وصلوا إلى فرنسا، وكانوا عن بعد أميال قليلة من مدينة باريس، لم يصحبوا في بادئ أمرهم زوجاتهم معهم، حتى تخف المؤن عليهم، ويسهل تنقلهم، كما أنهم قد وطؤوا أرضًا لم يطؤوها من قبل، وليسوا على يقين من النصر، كما أن تضاريسها وطبيعتها وهواءها يختلف عمّا ألفوه، ولهذا فقد تريثوا في جلب نسائهم معهم.
وبعد أن تم الفتح، وأصبح الاستقرار ممكنًا، وجدوا من النساء السبايا ما يشجعهم على تكوين أسر جديدة في أرض جديدة، ومع نساء يعرفن الكثير عن الأرض والعادات والثقافة وغيرها، ولهذا فقد كان زواجًا مختلطًا بين دماء عربية وبربرية مع دماء من الغوط، والروم، وغيرهم من الأقوام، ولم يكن ذلك الاختلاف في الزواج مقتصرًا على العرق، وإنما كان الدين مختلفًا، فقد كان الفاتحون مسلمين، بينما كانت السبايا والإماء من النصارى، وقليل من اليهود، وقد كانت الزيجات في أغلبها ناجحة، فأصبحت نتائج ذلك التزاوج جيلاً جديدًا من المسلمين آباؤهم مسلمون من العرب والبربر، وأمهاتهم نصرانيات من أعراق أوروبية، وهناك من يقول إن هناك مسيحيين متزوجين من نصرانيات، فأسلموا وأصبح أبناؤهم مسلمين، وكانوا من أعداد المولدين، وقد كونوا الأغلبية في بداية الفتح والعصر الأموي، لكن العرب والبربر تدفقوا بشكل كبير فيما بعد فكان إعداد العناصر الثلاثة يكاد يكون.
وقد أورد ابن حيان في كتابه المقتبس كثيرًا من أسماء بني أمية الذين أمهاتهم من المولدين، ونعلم أيضًا أن جميع أمراء وخلفاء بني أمية الأندلسيين الذين حكموا البلاد في الأندلس أمهاتهم غير عربيات، كما ذكر ابن حيان بنات عبدالرحمن الأوسط وذكر أن أعدادهن ثلاث وأربعون بنتًا، وسماهن بأسمائهن، هذا إضافة إلى عدد كبير من الأبناء، بلغ أكثر من مائه، ولا غرابة في ذلك فمن المعلوم أن عبدالرحمن الأوسط قد تزوج الكثير من النساء، واشترى عددًا غير قليل من الجواري، ويعتبر أفحل رجال بني أمية، وهؤلاء الخلفاء الذين أمهاتهم وجدانهم من المولدين، وكثير من نسائهم، يعتبرون أنفسهم من حيث النسب عربًا، ومن حيث الدين مسلمون، وأما اللغة فهي العربية، وليست عربية وحسب، وإنما كانوا مبدعين في لغتهم وشعرهم وتذوقهم وحسهم الأدبي الرائع، حتى إنهم يقربون إليهم الأدباء والشعراء، ويجعلونهم وزراء وكتابًا، وخصوصًا لهم.
وقد كان المولدون يحرصون على الادعاء بالانتماء للنسب العربي، حتى إن لم يكونوا كذلك، ومن أولئك علماء وفقهاء وقادة، فها هو العالم الكبير والفيلسوف المعروف أبو محمد علي بن حزم القرطبي، صاحب كتاب طوق الحمامة، وكتاب الملل والنحل، وغيرها من المؤلفات المشهورة التي اندثر وأحرق جلها لكثرة مشكلاته ومخالفته لأهل عصره، وهو أحد رواد المذهب الظاهري المعروف وأشهرهم، وهذا الرجل مع أنه كان وزيرًا لمدة قصيرة، ووالده له شأن عظيم، وله اتباع كثر، إلا أنه ظل حريصًا على أن يدعي نسبًا عربيًا، وقد لام شيخ مؤرخي الأندلس وعميدهم ابن حيان هذا الادعاء وفنده، ومثل آخر هو الكاتب والوزير وصاحب كتاب» تاريخ افتتاح الأندلس» الذي يعتبر أول الكتب التي سطرت تاريخ الأندلس، واسمه محمد بن عبدالعزيز بن مزاحم، ولقبه «ابن القوطية»، وهذه كنية لأمه، فهي الأميرة سارة من نسل ملك إسبانيا غيطشة، وقد تزوج أحد موالي الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك من سارة، عندما ارتحلت إلى دمشق باحثة عن ميراث والدها، فعندما قابلها هذا القائد تزوجها، وتبعها إلى الأندلس وجاء من سلالتها أبوبكر «ابن القوطية».
والحقيقة أن هؤلاء المولدين كانوا متمسكين بدينهم الإسلامي مدافعين عنه بكل أنواع الأسلحة، سواء في ميادين الوغى، أو عبر القلم، والسفارة لدى الأعداء، ومع ذلك فقد كانوا غير راضين عن الهيمنة العربية، وتفرّد العرب بالنفوذ، والجاه، والتَّميز الاجتماعي، حتى وإن كثر مالهم، أو قدراتهم العلمية والأدبية.
لقد كان المولدون يرون في العنصر العربي عنصرًا مترفعًا، كما يرون البربر عنصرًا غير متحضر، لا يجيد اللغة والشعر والعلم والثقافة، وهم أيضًا يعتزون بثقافتهم الخاصة بهم والمتوسعة في التسامح في جميع مناحي الحياة، وقد سبب هذا الشعور الكثير من المشكلات الاجتماعية التي تنامت مع الزمن حتى إلى حروب عرقية في فترات من تاريخ الأندلس المليء بالأحداث والمباهج والمآسي معًا، وقد أسهم المولدون مساهمة كبيرة في اللغة والأدب والشعر والنثر، بما نقلوا الكثير من العلوم التي من خلالها بدأت النهضة العلمية في أوروبا التي نعيشها الآن، ويعيش أحفادهم الآن في بلاد مختلفة في المغرب والجزائر وتونس وغيرها كثيرة، وبنسائهم مسحة من الجمال.