عبدالعزيز القاضي
جنبت وسط السوق وأمشي مع الساس
وآخذ شوي الحق وأترك كثيره
أبودباس
هذا بيت من قصيدة شاعر عودة سدير أبودباس الشهيرة إحدى أهم وأجمل قصائد النبط عبر التاريخ، وليس الحديث هنا عن القصيدة ومناسبتها بل عن عبارة (أمشي مع الساس) الواردة في البيت كناية عن الذل والهوان.
وفي كلمات الناس يقولون فلان (يباري الساس) أي أنه مسالم، خانع، طالب للستر والسلامة، فلا يجوس مواطن التحدي، ولا يزاحم في ميادين الإثارة، ولا يكون كذلك إلا الضعيف الكسير مهيض الجناح، قال ابن شريم من قصيدة رائعة في الشكوى من تغير الزمان وانقلاب المقاييس:
وقام الردي يدحم بجنب متيني
وابن الحمولة قام يمشي مع الساس
وقال آخر من قصيدة طريفة مستنسخة من قصيدة ابن شريم المشار إليها:
ابن الردي يسكن بعالي قصوره
وابن الحمايل صار يمشي مع الساس
وهذا البيت نسخة مشوهة لبيت ابن شريم، وفي القصيدة بيت طريف، يقول:
قالوا شنب قلت الشنب فات دوره
هذا زمان فيه الأشناب تنداس
كما يقال للئيم الخسيس عندما يتهرب من واجباته (دلبح مع الساس)، قال محمد خلف الخس:
الشيخ لاقام يتهرّب عن الناس
تراه مع ورك المطيّه تدلا
إلى أن قال:
لاجنّب الواجب ودلبح مع الساس
وانحاز مع بعض الوجيه يتسلا
مثل الجمل ماعنده شعور واحساس
اليا ملا بطنه تياسر وفلا
و(دلبح) معناها أحنى ظهره إمعانا في التخفي والهروب. وقال شرعان بن فاران الرمالي الشمري أو غيره من قصيدة شهيرة:
نفسي تشوم (عن) التدلبح مع الساس
ولاعاش من هو عن رفيقه يكني
والمشي (مع الساس) فيه تجنّب لما يكون في وسط الطريق من الوحل، وتجنّب لمصابّ المرازيم في أوقات المطر، والتماس للظل، وهروب من أشعة الشمس وقت الحر.
هكذا قدم أبودباس نفسه لابنه في قصيدته المؤثرة واصفا حاله مع الناس بعد أن سافر ابنه دباس لطلب الرزق وتركه وحيدا يرعى أسرته، ويجاهد في تأمين قوتها في بلدته (عودة سدير)، تلك البلدة الصغيرة قليلة الموارد التي لا تختلف عن غيرها من بلدان وقرى نجد خلال القرن الثالث عشر فما قبل، عندما كان الفقر والجوع يقتل الناس ويحيلهم إلى وحوش تتقاتل على لقمة العيش.
ومعنى (يباري الساس) في اللغة: يساير الجدار، وعبّر عنه بالساس على سبيل المجاز المرسل (علاقته الجزئية)، والساس أصلها (ا لأساس) وهو أسفل الجدار، وخصه لأنه الموازي لأقدام الماشي.
والفارق بين المشي (وسط السوق) والمشي (مع الساس) فارق طبقي، فالأول للقوي والشريف، والثاني للوضيع والضعيف، ومقياس القوة والضعف في القديم هو (كثرة المال وكثرة الولد).
وقد استهلكت عبارة (يباري الساس) فصار الناس يطلقونها على كل ضعيف يتجنب ميادين الصراع والأخذ والرد، بل إن الواحد من الناس صار يقولها عن نفسه وهو يبتسم على سبيل تكلف البراءة والتواضع عندما يشار إلى أحد أشكال قوته المادية أو المعنوية.