عبدالعزيز القاضي
سياحة في بيت: وداع الأحبة (2)
توديع الأحباب مثل الموت له سكرة
أدمى جروحي وشق الصدر منّيّا
- متعب التركي
في السياحة الماضية تحدثت في رحيل الأحبة وأثره في نفوس أحبابهم من الشعراء, واليوم أعرج على الجانب الأعمق ألما للرحيل وهو (التوديع), والتوديع أنواع فمنه توديع الرحيل والسفر, وتوديع الوفاة, وتوديع الفراق المؤقت أو الدائم.
وكل توديع مؤلم للروح لأنه يحجب عنها جانبا مشرقا في حياتها, ويقطعها عن روح تحبها وتسعد بقربها, وفي لحظات الوداع تتصاعد المشاعر حتى ينفرط عقدها, ويفقد صاحيها السيطرة عليها, وكل آلام الفقد تجتمع في تلك اللحظة لتشكّل نوبة حزن وألم مركز غاية التركيز, ولذلك ربما قضت على المفجوع أو أوقعته طريح فراش المرض. وأظن أن الشطر الأول من بيت السياحة أعلاه لخص حقيقة الوداع, وأبان عن عمق أثره في النفوس, فهو كالموت بل هو الموت في إحدى صوره, وله سكرات كسكراته تتمثل في برودة وتخدر في الأطراف, وتشوّش في الذهن, وفقدان للوعي، وانعدام للتمييز بين الأشياء, وهذيان، وصعوبة في ابتلاع الريق, وتباطؤ في التنفس, وهبوط في الضغط, وشعور بالتعب والإعياء.
ومنذ وجد الإنسان وجدت معه مشاعر الفرح والترح, ومنذ خُلق الحب خلقت معه متعلقاته المسعدة والمشقية, وأكثر متعلقاته المشقية إيلاما هي الفراق, وما من عاشق محب إلا شكا منه, قال المرحوم الأمير محمد الأحمد السديري:
ياليت ربي ماخلق حب وفراق
وإلا خلق حب على غير فرقى
و(الحب) الذي لا يعتريه (فراق) نادر وربما كان مستحيلا ولذلك صدّر الشاعر البيت بكلمة (يا ليت) التي يُعبر بها في طلب المستحيل غالبا, والتمني هنا خارج عن حقيقته إلى الشكوى والتوجع.
بكى الشعراء قديما وحديثا من ألم الفراق, وعرضوا لحظات الوداع بصور مؤثرة, فالأعشى يسائل نفسه بتعجب عند وداع محبوبته ويقول:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل؟
فالوداع صعب لا يطيقه أقوى الناس بأسا وتحملا.
أما المتنبي فيقول لحظة الوداع توديع للروح قبل الحبيب:
حُشاشة نفس ودعت يوم ودعوا
فلم أدر أي الظاعنين أشيّع!
ويتمنى ابن زريق أنه ودع الحياة ولم يودع محبوبته:
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
ويقول عبدالله العليوي رحمه الله إنه لن يتحمل وداع محبوبه لأن وداعه هو الموت بعينه:
وداعك! كيف أبتحمل وداعك؟
وداعك موت يا كل الحبايب
وأبرز مظاهر الألم وفقدان السيطرة على المشاعر في لحظات الوداع تتمثل في انهمار الدموع, والذعر, والهذيان, وإشاحة الوجه لإخفاء المشاعر المؤلمة, قال أحمد الناصر الشايع:
هلّ دمعي على خدي نهار الوداع
يوم قالوا فمان الله جاني بلاي
وقال سليمان السلامة:
لحظة التوديع فيها ويش أقول
كل ما بالقلب قالته الدموع
لحظة التوديع من حزن يهول
وقفت بشفاي للعبرة خضوع
والمرأة أكثر تأثرا من الرجل عند الوداع لطبيعتها العاطفية وضعفها وقلة حيلتها, قال البهاء زهير:
وقائلة لما أردت وداعها
حبيبي أحقا أنت بالبين فاجعي؟
فيا رب لا يصدق حديث سمعته
لقد راع قلبي ما جرى في مسامعي
وقال آخر:
ولما تنادت للرحيل جمالنا
وجدَّ بنا سيرٌ وفاضت مدامـعُ
تبدت لنا مذعورة من خبائها
وناظرها باللؤلؤ الرطب دامعُ
وقال حسين النجمي:
أشاحت غداة البين بالأعين النجل
ووارت دموعا كالمزون عن الأهل ِ
وقالت كلاما هامسا وتلعثمت
فلوّن خد البدر خط من الكحل
وقال جزا الحربي:
وقلت الوداع وغاديٍ وجهه ألوان
متخالطٍ فيه الخجل والزعليا
وذقت الفراق اللي مشاريبه أحزان
وأنحل بحالي والمحاني هزليا
إن منظر عيون الحبيبة وهي غارقة بدموع الألم والحزن لحظة الوداع لأشد وقعا على الحبيب من الوداع نفسه, قال عمر بن أبي ربيعة:
ومما شجاني أنها حين ودعت
تولت ودمعُ العينِ في الطرف خائرُ
فلما أعادت من بعيد بنظرةٍ
إلىَّ التفاتا أسلمته المحاجرُ
هذا هو الوداع وهذا وصف الشعراء له, أسأل الله أن يلطف بقلب كل مفارق مودع لأحبابه.