ميسون أبو بكر
ترتبط سيرة الكاتب بسيرة مدينة ما، إمّا ولد فيها أو ترعرع أو أمضى سنوات مراهقته ودراسته حيث لا تمّحي بسهولة وتبقى هذه المدينة تسكنه سواء في ذكرياته أو كتاباته، وقد ينقلنا بحرفيةّ بالغة عبر مقطع نثري أو شعري أو لوني إلى مدينته الفضلى وسيرتها.
مدن خلّدها مبدعون عبر فنونهم المختلفة ومدن مضت تحت عباءة الماضي وغدر التاريخ لكنها بقيت كمزارات في الذاكرة وأيقونات أدبية، ولعلّ عشقي للرياض فسّر لي كيف يصبح المرء جزءا من المكان الذي ألفه وتنتمي إليه روحه، ولعلّ في عودة ميسون بنت بجدل من قصرها بتسريح الخليفة معاوية إلى البادية التي قالت فيها أبياتها الشهيرة خير دليل على هذا الارتباط وهذه الألفة بين المكان والإنسان:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقرّ عيني
أحبّ إليّ من لبس الشفوف
وأصوات الرياح بكلّ فجٌّ
أحبّ إليّ من نقر الدّفوف
خشونة عيشتي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطريف
وقد يكون هناك شوق لديار لم تلد الإنسان أرضها وإنما كانت محطة من محطات العمر تلك التي تكون إطلالة الشاب الأولى على الحياة، ولا زالت تلك اللحظة التي قرأ فيها معالي الدكتور غازي القصيبي في لقائي التلفزيوني به ذكرياته عن القاهرة من روايته «شقة الحرية» لحظة مؤثرة لن أنسى كيف تحايلت على دمعة كادت أن تسقط وتفضح تأثري أمام شاشة الكاميرا، وهو يودع قاهرته بكلمات الشاب الواقف على أطلال ذكرياته:
أوّاه يا قاهرتي.. أيتها المدينة التي ضمني صدرها الكبير، وتبنّتني، التي منحتني شهادة الليسانس في الحقوق وأعطتني مجموعتي القصصية الأولى، وساقتني إلى ليلة الحب الأولى، القاهرة التي تغصّ بالملايين..هل ستذكر هذا الفتى الذي ترك شيئا من حياته في أوتوبيس رقم ستة وشيئا في ميدان التحرير»
وله وقفة أخرى مع الرياض في قصيدته الشهيرة كأنك أنت الرياض.
من منا لم يتعرّف إلى قسنطينة التي استحضرتها الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي في جلّ رواياتها، فعبرت بنا جسورها العالية ومشت بنا حاراتها الضيقة واستنشقنا رائحة التراب المبلل بدماء أبطالها، وارتشفنا الشاي على صينية فضة حملت أصنافا من الحلوى التي تشتهر بها المنطقة:
« تنسحب عتيقة لتعود بعد لحظات بصينية قهوة نحاسية كبيرة عليها إبريق وفناجين وسكرية ومرش لماء الزهر، وصحن للحلويات.
في مدن أخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان وضعت جواره مسبقا ملعقة وقطعة سكر، ولكن قسنطينة مدينة تكره الإيجاز في كل شيء.
ها هي قسنطينة إذا ..
ها هي «حنين» النسخة الناقصة عن قسنطينة ، في لقاء ليليّ مع اللوحة الأصل.
فهل هذا هو الوطن؟ قسنطينة.. كيف أنت يا ميمة.. واشك».
للمدن ذاكرة تجمّل تفاصيلها ولحظاتنا معها.. كما للقلم ذاكرة ملونة قد تخط سيرة مدينة أبدع ساكنها في وصف ملامحها كما خلّد الكاتب السعودي عبدالرحمن منيف عمّان بكتابة سيرتها في روايته الشهيرة « سيرة مدينة»
إذ يقول» الذاكرة مهما حاول الإنسان الدقة والأمانة فهي خدّاعة شديدة المكر، لأنها تقول الأشياء التي تعنيها، ما تعتبره أكثر أهمية وفق مقاييسها الخاصة»
فقد كتب المنيف سيرة مدينة متكئا على عيني إنسان عاش ذلك الزمن في ذلك المكان دون أن يرجع لمراجع تاريخية.
ولم يبتعد الكاتب التركي أورهان باموق الفائز بنوبل للأدب عن كتابة سيرة اسطنبول وطراز أبنيتها الذي استعان بالخط الإسلامي، وعن وصف المدينة التي ولد وترعرع فيها ثم عاد إليها بعد اثني عشر عاما..
للمدن علاقة حميمة مع الإنسان الذي يطرزها حبرا على صفحات خالدة، فلأجل مدينة وقف عبدالرحمن الداخل يبكي نخلة نبتت في غير أرضه ذكرته بمجد بلاده.
من آخر البحر
تلك الرياض حبيبتي .. وحبيبتي
لي غيمة عشق اليباب ظلالها
لي خيمة سكنت بواديها الرياح
وراودتني عن الحنين
أو بيت شعر قد تطيب به الحياة.