محمد آل الشيخ
كثيراً ما أتعرض في نقاشاتي عن ضرورة تصحيح الخطاب الإسلامي الدموي الموروث بعد المآسي الداعشية التي حلت بنا بقول كثيرين إن ثمة آلافاً من الغربيين المتأسلمين الإرهابيين الدواعش ذكوراً وإناثاً، جاؤوا من الغرب ومن بيئة محض علمانية، وبالتالي فالقضية لا تُسأل عنها ثقافة التراث الموروث والاجتهادات الفقهية العنفية، بقدر ما هي (مؤامرة) حيكت ضد الإسلام والمسلمين في غرف الاستخبارات الغربية. وأنا لا أنكر أن ثمة احتمالاً أن هناك من استغل هذه الثقافة الدموية المورثة، وانتقى منها ما لا يتواكب ولا يتناسب مع عصرنا ومزاج الإنسان فيه، وأحياها ثانية من خلال المتأسلمين وأعادها إلينا على طريقة بضاعتكم ردت إليكم. كما لا يمكن أيضاً تجاوز أن فئة من مقاتلي داعش من الغربيين المسلمين، وبعض منهم أسلم حديثاً، رغم أن الثقافة الغربية والبيئة التي أتوا منها ونشأوا فيها، بيئة علمانية لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بالشحن العقدي الديني أو الطائفي. غير أن كل ذلك لا يعفي تراثنا من تحمُّل المسؤولية، سواء كانت نتيجة مؤامرة، أو أنها نتيجة طبيعية لمثل هذا التراث الدموي الموروث.
كما يجب ألا نخلط الأوراق؛ فالمقاتلون الدواعش القادمون من الغرب، هم هامش من هوامش القضية، وليس باعثها الرئيس؛ فالدواعش الغربيون هم حطة المجتمع وأراذلهم وسفلتهم هناك، وجُلهم لم يستطيعوا في تلك الأصقاع المتحضرة أن يحققوا ذواتهم، إما بسبب علل سيكولوجية، أو اجتماعية، أو لانحدار تربيتهم وعدم العناية بهم أسرياً، فوجدوا أن بيئة داعش والقتال المتوحش قد يتيح لهم تحقيق ذواتهم، فالدعشنة لا تتطلب أية قدرات متفوقة أو تميُّز تعليمي أو مهني، ما قد يمكنهم من أن يكون لهم قيمة ومكانة اجتماعية بل وبطولات، بعد أن أخفقوا من أن يكون لهم أية قيمة في مجتمعات لا مكان فيها لمن لا يمتلك نسبة معقولة من شروط التميز العملي والإنتاج.
وبالمناسبة فقد عرفت مجتمعات الغرب ظاهرة قريبة من هذه الظاهرة في زمن الثوريين الشيوعيين الذين كانوا ينضمون جماعات ووحداناً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ليقاتلوا مع «غيفارا» ونضالاته وعصاباته في بلدان أمريكا اللاتينية، وكانوا يمارسون في بربريتهم القتالية واغتيالاتهم التربصية آنذاك ما لا يختلف كثيراً عن عصابات داعش اليوم؛ ففي تلك الأحايين الغابرة كان الفشلة والعاجزون عن أن يكون لهم حينها شأن في بلدانهم، يشدون رحالهم إلى عصابات غيفارا اليسارية، فيجدون في القتال معه، واعتناق أفكاره الثورية، والعيش ضمن عصاباته، ما لم يستطيعوا تحقيقه في بلدانهم بسبب شروط مجتمعاتهم الحضارية التي لفظتهم؛ وانتشرت حينها في تلك البيئات الرأسمالية الليبرالية، مقولات ماركسية، وكذلك شعارات وقمصاناً تحمل اسم وصورة الثائر «غيفارا» وشعاراته ثم ما لبثت إلا انتهت وتلاشت. وظاهرة الشباب الغربيين المنضمين إلى داعش لا يمكن أن نقرأها قراءة متفحصة وموضوعية إلا من خلال التجربة الثورية لغيفارا والشباب الغربي الذين التحقوا بعصاباته.
ويجب أن لا نجعل (المؤامرة) شماعة تنسينا حقيقة أن التراث الموروث، خصوصاً ما يتعلق بجهاد الغزو والرق والسبي على سبيل المثال لا الحصر لا يتناسب مع عصرنا، وأن الإصرار عليه على اعتبار أنه تراث مقدس لا يجب المساس به، سيُلقي بنا كمسلمين وعرب إلى التهلكة، فعلاً وليس مجازاً؛ والمكابرة والإصرار على هذا التراث، سيجعل العواقب حتماً وخيمة؛ فمثلما أفرزت القاعدة داعش، ستفرز داعش وثقافتها الانتحارية، من هم أشرس وأهمج وأشد خطراً من داعش على العالم، وسيعض حينها أصابع الندم كل مكابر مغالط يتعالى على الواقعية والعقلانية والتفكير الموضوعي، فعاقبة اليابانيين مثلا كانت بسبب إصرارهم على ثقافتهم التقليدية الدموية الموروثة حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، فأودت بهم إلى الكارثة النووية، وقد تُودي بنا ثقافتنا الدموية الموروثة إلى نفس المآل. فالذي لا يقرأ تجارب الآخرين ويتعظ منها، ويتعالى عليها، سيعيد حتماً نفس التجارب ويواجه النتائج ذاتها.
إلى اللقاء.