دُكَّان أَبِي والحُبُّ ">
كنتُ آخر الخارجين من رحم أمي بعد أن سبقني سبع من الإناث، وحينما انتقلت للصف الثالث الابتدائي لاحظ أبي بأنني بدأت أجيد كتابة بعض الكلمات وقراءتها، وكذلك معرفة ناتج بعض المسائل الحسابية البسيطة المتعلقة بالجمع والطرح، فقام بشراء دفتر متوسط الحجم ذي غلاف أسود متين ووضعه في دكانه الصَّغير الوحيد بالقرية الذي قد اكتظت جوانبه بكافة المستلزمات الأساسية من المواد الغذائية التي يحتاجها أهل القرية.
كما أمرني بأن أحضر إليه كل ليلة في الدكان قبل غروب الشمس لأقوم بتسجيل الأسماء والمبالغ التي تمَّ استدانتها من أهل القرية يوما بيوم، خشية أن تفلت بعض الريالات من ذاكرته التي لم تعد قادرة كما قبل على الحفظ.
وحينما أحضر في الموعد المحدد يقوم بفتح ذلك الدفتر ويبدأ في الإملاء عليَّ بجميع من قاموا بالاستدانة من دكانه منذ الصباح، وبين الفينة والأخرى أسمع بعض المشادات الكلامية التي تحدث بينه وبين بعض زبائنه من الذين أكتب أسماءهم في ذلك الدفتر، فتارة أسمعه يهدد أبا سالم بأنه لن يسمح له بالاستدانة إذا بلغ ما تمَّ استدانته مئتي ريال حتى يدفع المبلغ السابق، وتارة أسمع محمد الأعرج يستجديه بأن يمهله حتى يرسل له ابنه الذي يعمل في المدينة بعض النقود.
وكذلك فاطمة الأرملة تحلف له بأيمانٍ غليظةٍ أنها سوف تسدد كل الذي عليها عندما تبيع محصولها الزراعي أو بعضاً من أغنامها، كان أبي حريصاً كل الحرص أن يستوفي حقوقه في الوقت المحدد إضافة لكونه غليظاً بعض الشيء مع المستدينين.
لكن طريقة تعامله كانت تختلف مع إحدى زبائنه والتي تدعى أم سلمى ذات العقد الرابع من عمرها، ذات بشرة تميل إلى البياض وجسم ممتلئ بعض الشيء، فهو يبدو حليماً متعاطفاً معها ولم أسمعه يوما يذكِّرها بالمبالغ التي عليها أو يحدد لها وقتاً للسداد، كانت أم سلمى تأتي كل ليلة قبل غروب الشمس على حمارها تتربع خلفها ابنتُها ذات الخمس سنوات، وحينما تقف أقدام حمارها على باب الدكان يأمرني بالخروج إليها حتى استمع لطلباتها، بينما يقوم هو بأخذ قطعة حلوى ويمد بها إلى ابنتها وعندما تنصرف أقوم بتسجيل ما أخذته من الأغراض في الدفتر كما علمني.
وذات مرة انقطعت أم سلمى عن المجيء ثلاث ليالٍ متتالية، فلاحظت انشغال أبي بالسؤال عنها وعن انقطاع مجيئها، فسألته ذات ليلة من تكون أم سلمى فهي ليس من نساء قريتنا ؟ فردَّ بصوت فيه من التعاطف الكثير قائلاً: : إنها امرأة من القرية المجاورة توفي زوجها بعد زواجه منها بسنة تقريباً غرقاً بالوادي الذي يفصل بين قريتنا وقريتهم، تاركاً لها ابنتها ووالدها الطاعن في السن كفيف البصر.
في الليلة الرابعة أقبلت أم سلمى في وقتها المعتاد ففزَّ أبي يدثره الفرح والاشتياق، فقمت أنا كعادتي بتلبية طلباتها وقام هو بمدِّ الحلوى إلى ابنتها وهو يسألها عن سبب انقطاعها المفاجئ، فأجابته بأن والدها كان متعباً بعض الشيء وبعد انصرافها اتجهتُ إلى الدفتر حتى أدوِّن ما استدانته كالعادة، لكن أبي أشار إليَّ بعدم فعل ذلك وبعد فترة انقطعت عن المجيء مرة أخرى، لكن لاحظت أن أبي لم يعدْ يهتمُّ لانقطاعها بتاتا بل كان هو منْ يأخذ كل ليلة قبل الغروب نفس الأغراض التي كانت تأخذها بما فيها قطعة الحلوى ويضعها في السيارة ويغيب ساعة ومن ثَمَّ يرجع لنغلق الدكان ونذهبَ للمنزل معا.
استمر على هذا الحال فترة من الزمن وذات ليلة تأخر عن المجيء فأغلقت الدكان وذهبت إلى البيت، وبمجرد أن دخلت المنزل سمعت بكاء أمي وخالتي وأخواتي ملتفات حولها، كانت تبكي بحرارة وتردد بصوت عالٍ: أبعد هذا العمر يتزوج عليَّ ؟!.. حينها فهمت السر.
أحمد محرق - الرياض 2015م