رقية الهويريني
غادرنا من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية رجل أبى إلا أن يُحدث فرقًا في الخلق والسلوك، عدا عن الشهامة التي تسكنه حتى ارتبط فيها اسمه ولقبه وكنيته، بل وسحنته!
انتقل خال والدتي عبد العزيز النويصر إلى رحمة الله، فكان فقده مؤلمًا ورحيله موجعًا، وفراقه مدميًا. ولا أخالك وأنا استعرض سيرته إلا أن تهفو نفسك للقائه، فقلما تجتمع في شخص المكانة والسؤدد والسمو والهيبة، وبالمقابل الطيبة والنقاء والتواضع والبساطة اللا متناهية، حتى لا تكاد تفرق بينه وبين أقل شخص مكانة واعتبارًا، ولا تندهش حين تدخل مجلسه العامر بالزائرين فتراه يقوم بنفسه بشؤون الضيافة ومباشرة الناس، وحتى الفتيان يحفزهم والأطفال يلاعبهم ويناغيهم! ولا تستغرب عندما تراه يرتب الطاولات أمام الجلساء ويسكب القهوة لهم برغم وجود من يباشرهم ويخدمهم بقلبه ومشاعره! ولم يكن منزله مشيدًا من الأسمنت والحديد بل مقام على صروح المشاعر والأحاسيس المتدفقة من الحب الخالص. فلا تعجب حين ترى محبيه التقوا على محبته وافترقوا وهم يكنون الحب لبعضهم ويتلهفون للقاء عنده، وكأن العدوى سرت منه لهم فحوّل علاقات القرابة والصداقة من واجبات تؤدى إلى مشاعر تسكب، مغلفة بالحب والدفء!
ولم تكن الدنيا ومغرياتها تشكّل له همّا وهو رجل الأعمال الثري، فما فقده من مال أكثر مما ادخره برغم حصوله عليه بجهده وعصاميته، ولم أره قط متأسفًا أو ساخطًا أو متبرمًا من ضياعه.
ولهذا الرجل النبيل دين في رقبتي وفضل لا أنساه؛ حينما احتوى أمي رحمها الله بعد رحيل والدتها وهي لم تبلغ السنة الأولى من عمرها فداوى وحدتها بشخصه وبذل لها وجاهته بحضوره، فكان يزورها ويطيّب خاطرها حتى وفاتها رحمهما الله، لدرجة أنني حين أراها وهي في أحلك أوضاعها المرضية وأقسى آلامها النفسية؛ أتعمد أن أذكر اسم خالها عبد العزيز لأداعبها وأسرّي عن خاطرها فيفتر وجهها عن ابتسامة الرضى وتلمع عيناها وتتمتم بالدعاء له، وينجلي غمها حين نتذاكر سويًا سيرته وطيب معدنه وطيبة قلبه. وما زلت أمارس هذا الذكر الجميل مع أفراد أسرتي امتدادًا لبرّي بوالدتي وامتنانًا لهذا الرجل النبيل، ولأعلمهم معاني النبل والعطاء.
ولقد شهدت إبان طفولتي موقفًا كان له أثر في نفسي وتشكيل شخصيتي عندما زارته أمي زيارة خاطفة، فأربكه قصر الوقت عن إحضار هدية ثمينة لها كعادته! فأمسك يد زوجته وخلع أسورتها وهو يقول (سأعوضك ضعفها يا أم ناصر) وكان رد تلك المرأة العظيمة رحمها الله يوازيه كرمًا وطيبة: (أنت عوضي الدائم يا بو ناصر) وقام بنفسه بإلباس والدتي الأسورة الذهبية وهو يعتذر بابتسامة وسعادة! وهذا الموقف يتكرر دومًا مع كل شخص تربطه به قرابة أو صداقة أو معرفة.
وفي الوقت الذي يستبشر قبره بلقائه وتستعد له الجنة إن شاء الله بما يليق به، كرمًا من ربه؛ أعزي نفسي وأسرته ومحبيه بفقده، وأدعو الله أن ينير قبره ويغفر له ويسكنه جنته.