د. فوزية البكر
في مقالة الأسبوع الماضي، التي نُشرت بتاريخ (29/ 10/ 2015)، وكانت بعنوان (لماذا طلقت ابنتي؟)، استعرضنا الكثير من الأسباب المادية والعائلية التي تهدد مؤسسة الزواج في بلادنا، إلى الدرجة التي وصلت فيها نسب الطلاق إلى نسب غير مسبوقة، يقدرها البعض بـ 35 %؛ إذ يتم تسجيل ثماني حالات طلاق في كل ساعة.
وأنهيت المقالة بالتشديد على أهمية النظرة الكلية لموضوع عام وحساس بهذا القدر، ومناقشته من جوانبه كافة، المادية والعائلية والاجتماعية والقانونية.
لكن تبقى مناقشة السبب الأكثر أهمية - في رأيي -، وهو تلك (العواصف الثقافية والقيمية) التي تهدد العلاقة بين الرجل والمرأة السعوديَّيْن في وقتنا الحاضر، بما يدفعهما بعد الزواج وسريعاً إلى الارتطام بصخرة الطلاق القاسية رغم هدي نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي قال: «ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق».
فما هي يا تُرى تلك العواصف الثقافية والقيمية التي باعدت بين طرفَيْ الموضوع؟ وما الذي خلق هذه المسافات الشاسعة من عدم التفاهم والصراع، حتى دخل طرفا العلاقة، وهما الفتاة والشاب، في أجواء أشبه ما تكون بالحرب، فمن يفوز ومن ينتصر، وهو ما يخالف تماماً المبادئ الأساسية التي يقوم عليها بناء العلاقة الإنسانية في مؤسسة الزواج، وهي ببساطة: الاحترام المتبادل، والقدرة على العطاء، والتنازل، والتفاوض لقبول حلول وسطية، ترضي أطراف العلاقة الزوجية كافة.
نعم، أولادنا تغيَّروا عنا كثيراً. هذه حقيقة بسيطة، نقبلها لأولادنا، لكننا لا نستطيع تطبيقها على غيرنا. نقبل أن تدرس ابنتنا، وتكون لها كلمتها المسموعة، ونراعي خاطرها في كل قرار يُتخذ، لكن عندما يتزوج الولد من ابنة الآخرين (التي هي أيضاً مختلفة في بيت أهلها، ولها نفس درجة الاستقلالية وصناعة القرار) نبدأ باللوم والصراع؛ لأن هذه الفتاة لم تراعِ حقوق الزوج، ولم تطع كلامه.. وهكذا دواليك؟ يقضي المجتمع وقته في نقد أطرافه المتحاربة المتناقضة؛ فكلٌّ يريد حقه وحق ابنته، لكن لا يتصور أن للآخرين أيضاً حقاً في هذا الاختلاف؟
مواقع الجنسين ووظائفهما وأدوارهما والتوقعات المناطة بكل دور تغيّرت اليوم عما كانت عليه، وكلنا يعرف ذلك، لكن لسنا قادرين على تصوُّر نتائجه، وهذه هي المشكلة. هذا يعني أننا فرحنا بتوفير التعليم والعمل والاستقلال الاقتصادي والوعي الثقافي للمرأة في مجتمعنا، وتجاهلنا أن ذلك يعني إعادة تشكيل شخصية وعقلية مختلفة لها عما كانت عليه سابقاً. فإذا كانت الفتاة في الماضي تتقبل ما يختاره الأب لها، وتقبل العيش مع أسرة الزوج لاحقاً، بل يُتوقَّع منها أن تقوم على خدمتهم.. إلخ مما تحكيه لنا أمهاتنا اللاتي لم يجدن فيه غضاضة؛ لأنه كان يعكس رؤية المجتمع في ذلك الوقت لدور ووظائف المرأة كزوجة وأم، فإن ذلك تغيّر اليوم.
يجب أن نعترف بأن فتاة اليوم هي امرأة كاملة مستقلة، ويحتاج الرجل إلى أن يعي ذلك في تعامله معها، لكن المرأة أيضاً تحتاج إلى أن تتحمل مسؤولية ذلك بالتصرف كراشدة، وليس كطفلة. وهنا تأتي المشكلة. الكثير من النساء السعوديات - وعلى الرغم من التعلم والعمل والاستقلال الاقتصادي - لا يمتلكن من النضج العاطفي والنفسي ما يمكّنهن من تحمّل مسؤولية خياراتهن؛ لذا ورغم أنهن يؤكدن احترام وجهة نظرهن في اختيار أزواجهن وطريقة الزواج وشروطه.. إلخ إلا أن الفتاة تهرع إلى منزل والديها باكية عند أول (مطب)! هي تركض باكية للأم والأب لتطلب الحماية من الرجل (المعتدي)؛ فيفور قلب الأب والأم بما يضخم مشكلة كانت قد بدأت بسوء تفاهم عابر.
والأمر نفسه ينطبق على الشاب السعودي الذي يطلب فتاة متعلمة، جميلة، ومسؤولة، تعتني به وبأولاده، وحين تبدأ الحياة مع المرأة (المستقلة) تبدأ المشكلات والصراع على صغائر بسيطة، تكبر بفعل جدار العزلة الذي خلقه الواقع الاجتماعي المبني على فكرة العزل، بما يجعل خبرة هذا الشاب في التعامل مع النساء تكاد تكون معدومة؛ لذا يصاب بالقلق والتوجس، وقد يتخذ أخطاء جسيمة حفظاً لماء وجهه، أو ما ظن أنه مساس برجولته، وهي أمور لا تتجاوز مناوشات عابرة، لو تجاوزها الزوجان لذهبت أدراج الرياح.
يجب أيضاً أن نعي أن شبابنا الذكور يعانون في مجتمعاتنا المعزولة مما يسمى بالرهاب الاجتماعي، خاصة تجاه المرأة التي لم يعتد عليها إلا في المسلسلات، أو بشكل علاقات عابرة، وهو ما يولد لديهم قلقاً كبيراً في علاقتهم بالجنس الآخر، وبالطبع تزداد الأمور سوءاً إذا حدثت مشكلات سريعة بعد الزواج مباشرة.
لن ننسى أيضاً أن الحياة الحاضرة والرخاء الاقتصادي والتعليم.. كل ذلك أتاح لكلا الجنسين خيارات متعددة، قد تؤجل قرارهم في الزواج، أو قد تهون عليهم اتخاذ قرار الانفصال بعد الزواج، وهو ما يهدد مؤسسة الأسرة التي تعد النواة الأساسية للمجتمع.
وسائط التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل سلبي - في رأيي - في اتخاذ مواقف حذرة أو متربصة بين الجنسين اللذين يضعان احتمالات علاقات أخرى، بما يؤثر على رؤيتهما لأهمية الزواج، وربما يسهل قرار الانفصال.
الرجل والمرأة السعوديان، شأنهما شأن كل الشباب في مجتمعات عالم اليوم، يمران بتغيرات عميقة في الشخصية والنظرة للعالم الآخر والرؤية للنفس والآخر.. والفرق الجوهري هو في كون السعوديين يعيشون ضمن أطر اجتماعية أضيق مما هو متاح في مجتمعات أخرى، بما يعقّد رؤية كل طرف للآخر الذي (يعرفه)، لكنه أيضاً لا يعرفه.
لذا نقول إن الزواج ربما هو الخطوة الأصعب في حياة كل إنسان، لكن شروط العلاقات الإنسانية، وتحديداً العلاقات القريبة، وداخل مؤسسة الزواج، تتلخص في الآتي:
الاحترام المتبادل، القدرة على قبول الحلول الوسط حتى نجد مخرجاً (إنسانياً) لاختلافاتنا، وأخيراً الغفران وقبول الآخر، ثم النسيان. فما يقتل العلاقة ليس فقط حدوث الخطأ والتجاوز من أحد أطرافها، بل الأكثر عدم قدرة الطرف الآخر على الغفران.