د. فوزية البكر
جذبتني بشدة مقالة رائعة للدكتور النعيمي في جريدة الرؤية نشرت في الثالث عشر من أكتوبر بعنوان الأسئلة المحرمة، يقول فيها إنه وفي تلك الأيام لم يستوعب ما قاله له البروفيسور محمد عيسى برهوم قبل ثمانية عشر عاما «الإنسان الغربي يحسد الإنسان العربي على حياته الاجتماعية، والإنسان العربي يحسد الإنسان الغربي على خصوصيته»
تأملت هذه المقولة العميقة، وأنا أغوص في بحر من التدخلات الذاتية لا نهاية لها، يمطرها كل منا على الآخر، وخاصة بين مجتمع النساء: يا حرام ست شهور وتطلقت. مسكينة زي الورد علقها سنتين لحد ما وافق يطلق...
أما الثانية، فنظرات الشفقة تلاحقها أينما حلت، يا حرام ما تزوجت، الله يكتب لها الصالح. ياربي يفرح قلب أمك فيك و نشوفك عروسة.
أما الثالثة فهي تعمل في منطقة بعيدة: يا حرام تصدقون ما يسوى عليها ها الراتب.كل يوم تمسك الطريق من خمسة الفجر وما ترجع لبيتها إلا المغرب. يالله خلفتها كلها بنات :ربي يرزقها بالولد.
يالله بخيلة بشكل.. معلمة من سنة نوح في الوزارة وما تلاقين عليها شي يسوى
هذه فقط نماذج (مصغرة وبسيطة) من سيل من التدخلات المغرقة في الشخصية والموجعة للشخص المسلط عليه الاهتمام، ولماذا ؟ لأننا ثقافياً لا نرى بأسا في هذه التدخلات طالما هي حول الآخرين وهي تجرحنا حين تسلط علينا فنحن الممارسون ونحن الضحايا.
نهر من الأحزان أراها تهطل من عيون الصبايا ممن طلقت أو لم يحالفها الحظ في مجتمع مغلق، أن تجد الزوج المناسب أو أهملها رفيق العمر إلى أخرى أو.. أو ..سيل من الأسباب التي قد نتعرض لها جميعا لكننا لا نكف عن توجيه الاستنكار والتساؤل لإشباع عادات ثقافية تشجع الآخر على التدخل فيما لا شأن له فيه، وهذه تحديداً قد تبدو منتشرة في الأوساط النسائية أكثر من الرجالية رغم أنها بالضرورة موجودة بينهم لكوننا جميعا مخلوقات ثقافية نتخلق ونتكيف اجتماعياً فيما يحيط بنا فما نفكر به ونفعله هو نتاج اجتماعي، وثقافي لما يحيط بنا، ومن هنا فلا أحد للأسف مصان منه أو عنه.
وبقدر ما نتغنى بأننا نفاخر في كل محفل ودراسة وحديث أننا نتميز على المجتمعات الغربية بعمق وقوة الأواصر العائلية التي تجعلنا نرعى الكبير ونعطف علي الصغير ونقيم حق المحتاج ونقف مع أقربائنا في السراء (أكثر من الضراء بالتأكيد) إلا أننا في خضم ذلك سمحنا للقريب والبعيد أن يتداخل في حياتنا اليومية وأصبحت أواصر العائلة الكبيرة والأقارب والجيران والمعارف البعيدين أهم من العائلة الصغيرة المباشرة. ومن ثم تجد أن لا أب لديه الوقت الكافي ليأخذ ابنه إلى المدرسة أو يعيده منها أو يقوم بتدريسه ومتابعة واجباته اليومية؛ فبرنامجه مشغول جدا وهو يدفع راتب مدرس مساعد يأتي مرهقاً في آخر النهار ليجلس في رأس الطاولة لساعة (يتم فيها) كما قد نتصور المراجعة ويخرج، لكن الأب لم يحظ بلحظة تفكر حقيقية فيما يدرسه ابنه من (درر) أو (غثاء)، كما لم يتح له وقت خاص يناقش معه بعض الأفكار الدارجة أو حتى يتناقل وإياه مزحة أو صورة على الواتس أب.
مسئوليات الخارج الاجتماعي في عالمنا والمحيط هي ما يجعلنا نركض في كل الاتجاهات، إما لنلبي توقعات اجتماعية معينة بأن نحضر هذا الزفاف ونقيم عزيمة لهذه القريبة ونوجب ثانية لسلامتها من مكروه.. إلخ، من القضايا الاجتماعية التي لا تنتهي لنجد أنفسنا وفي نهاية النهار وقد تم استهلاك 60 % من وقتنا وجهدنا لقضاء حاجات اجتماعية لا تنتهي، ومعاها وبسبب كثرتها يزحف الآخرون (الخارجيون) تدريجيا إلى عالمنا ليقودوه بتوقعاتهم وملاحظاتهم التي يكررونها في كل مجلس، فلا شيء يشغل أذهانهم سوى ما يفعل الآخرون تدريجا نصبح جميعا أسرى لشبكة من العلاقات الاجتماعية العائلية التي تملأ فضاء عالمنا وتسحبنا من واجباتنا الأساسية داخل الأسرة الصغيرة لأن كل شيء خارجي يبدو مهمّاً وسيتحدث عنه الآخرون، فيما لا يملك الطفل الصغير الذي لم تجد أمه وقتا لوضعه في فراشه لأنها لابد أن تكون عند الكوافير تصلح شعرها استعدادا للذهاب إلى زواج، كما أن الأب ربما أيضا في زواج أو مناسبة، والشغالة (البسيطة غير المتعلمة) موجودة، كما أن السائق يستطيع إحضار بعض الأطعمة الجاهزة وهكذا تختفي علاقاتنا الأساسية داخل الأسرة الصغيرة، ونسمح تدريجيا لوظائفنا الأساسية أن تتسرب من أيدينا إلى آخرين من أجل تحقيق التوقعات الاجتماعية للعائلة الكبيرة التي التهمت واجباتها بقية وقتنا وجهدنا ومالنا، ومن هنا ولأن هذا الخارج الاجتماعي هو ما نوليه الاهتمام أكثر من ( الواقع الصغير اليومي) يصبح ما يقوله الاخرون وما ينفثونه من سموم ذا أهمية تخدش مشاعرنا وتقلقنا أكثر من غضب صغارنا؛ لأننا لم نبقَ معهم مساء أو نراجع درسا أو نقرأ قصة.
يجب أن نتوقف عن الخضوع لكل هذه المطالب الاجتماعية التي لا تنتهي، كما يجب أن (نحاول) تدريجيا أن نتحلى بالشجاعة خاصة أولئك الذين في مواقع يري هذا (الخارج) الاجتماعي الكبير إنها ليست (تمام)كزوجة مهجورة أو شابة مستقلة أو موظفة متعبة. يجب فعلا أن نحاول تشجيع أنفسنا وتشجيع بعضنا بأن نقول لهم : كفوا، هذا ليس من شأنكم، أو أني لا أرغب الحديث فيه كما لا أرغب أن يتحدث فيه أحد. هل جربنا فعلاً أن نخبر من حولنا بماذا نرغب حقا؟