عبدالعزيز السماري
رد الأستاذ فيصل بن سعيد الزهراني، المدير العام للعلاقات العامة والإعلام والعلاقات الدولية في وزارة الصحة، يوم 6 نوفمبر 2015، المنشور في جريدة الجزيرة 15744، على مقال في غاية الوضوح للزميل الأستاذ محمد آل الشيخ عن المتاجرة بالطب.
وأشار إلى أن الوزارة حين تثبت لها المتاجرة تتخذ أشد العقوبات، وأن هناك تعليمات مشدَّدة بهذا الخصوص، ويستثنى من ذلك أعضاء هيئة التدريس في الجامعات؛ إذ يسمح لهم النظام بتقديم استشاراتهم الطبية للقطاع الخاص.
في هذه المرة كان الاستثناء، واختارت الوزارة أن ترد بعد غياب، لكنها رأت أن تعيد سياسة النفي والوعيد المتوقف عن التفعيل إلى برنامج عملها. وتلك سياسة أثبتت فشلها في السابق، وكنت أتمنى أن لا تنفي؛ فالواقع يقول بغير ذلك، والعيادات الخاصة في مستشفيات التجار تزدحم بأطباء القطاعات الحكومية.
إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن لم تكن تدري فالمصيبة أعظم يا وزارة الصحة؛ فالأمر لا يحتاج إلى إثبات؛ لأن عيادات القطاع الخاص مزدحمة بالأطباء الذين اختاروا العمل المزدوج، الذي لا يمكن أن يحصل بدون الإخلال بالوظيفة الأساسية في المستشفى الحكومي.
يدخل هذا الخروج الكثيف للأطباء للعمل في القطاع الخاص كأحد آثار إقرار تجميد رواتب الأطباء في المستشفيات المتخصصة. وقد غضت بعض إدارات المستشفيات النظر بوعي منها عن خروج أطبائها إلى القطاع الخاص، وإن كان بعضهم يستخدم عين الرضا وعين السخط عن تجاوزات العمل المزدوج؛ فيلاحق فلاناً، ويغض النظر عن آخَر لأسباب محسوبية.
الخاسر الأكبر في هذه التجاوزات هو التخصصات الدقيقة، والطبيب الذي اختار ألا يعدد أماكن عمله بدون تقنين واضح، ولأنه في كل الأحوال غير قادر على كسب الأموال الطائلة في عيادته الخاص، وفي الوقت نفسه يقدم خدماته المتخصصة حسبما هو متفق عليه في المستشفى العام.
الرد الوزاري يقول إن هناك تعليمات مشدَّدة بهذا الخصوص، ويستثنى من ذلك أعضاء هيئة التدريس في الجامعات؛ إذ يسمح لهم النظام بتقديم استشاراتهم الطبية للقطاع الخاص. ولم أفهم لمن وُجّهت التعليمات المشددة؟ هل هي للتاجر أم للطبيب؟ والصحيح أن تكون موجهة للتاجر الذي بدون موافقته لا يمكن أن يعمل الطبيب الاستشاري في مستشفاه التجاري.
أطباء الجامعة يمارسون أشبه ما يكون بدوام كامل في المستشفيات الخاصة، ولا يكتفون بتقديم استشارات خاصة للقطاع الخاص كما جاء في رد الوزارة. وأتمنى من الوزارة أن تخرج من مكاتبها، وأن ترى الحقيقة المجردة على أرض الواقع.
كارثة المتاجرة بصحة الناس لم تعد خافية؛ فقد أصبحت عنواناً آخر لاستنزاف مدخرات الناس. وقد يتساءل البعض عن أسباب ازدهار القطاع الصحي التجاري، وتدهور القطاعات العامة، وخصوصاً المتخصص منها. وحسب وجهة نظري، تعود إلى أربعة عوامل:
أولها القرار الذي جمّد دخل أطباء المستشفيات المتخصصة بالرغم من أنهم يقدمون خدمات أكثر تعقيداً، ويعملون لساعات أكثر. والعامل الثاني هو غياب أنظمة واضحة، تُحدُّ من الجمع غير المقنن بين الدوام في القطاع الخاص والعمل في القطاع العام.
والعامل الثالث هو تضاد المصالح في قضية تشغيل القطاع الخاص؛ والدليل أن أكبر ممول لوظائف المستشفيات الخاصة هو التحويل الوزاري للمرضى إليها، في حين تواجه طلبات تطوير الخدمات الطبية المتخصصة في المستشفيات العامة بالعراقيل، بعد أن تحول بعضها إلى أشبه بالمبنى الإداري المزدحم بالخدمات الإدارية والمساندة، بينما يعاني قطاعه الطبي والمتخصص من التهميش.
كان من الأنسب استغلال هذه الأموال لتطوير المستشفيات المتخصصة، وتطوير طرق تقدير أداء أطبائها المتخصصين مادياً، بدلاً من استقطابهم للعمل من تحت الطاولة في المستشفيات الخاصة لخدمة المرضى المحولين من وزارة الصحة إلى المستشفى الأهلي. والمحصلة النهائية تصب في مصلحة التاجر المادية أياً كان!
العامل الرابع هو وجود لوبي تجاري قوي، يدفع نحو خصخصة جزء كبير من الخدمات الصحية، بعد السماح لشركات التأمين الأهلية بأن تتوسع خدماتها في السوق المحلية، الذي سيكون كارثياً إن حصل. وكما كتبت وكتب غيري، فقد أثبت فشله في بقية العالم، وتحاول الولايات المتحدة الأمريكية الخروج منه.
أكتب ذلك لعلمي بأن الوزارة في ثوبها الجديد تحاول جاهدة أن تعيد الخدمات الصحية إلى اتجاهها الصحيح. والله المستعان.