د. فوزية البكر
لم يكرم الله أمة بمثل ما أكرمنا من رعاية للحج والحجيج منذ بعث الله نبي هذه الأمة من داخل مكة المكرمة، ولذا فحين تحدث مأساة بحجم حادثة تدافع منى المشؤومة فكلنا قيادة وشعبا مكلومون وموجوعون حتى نتمكن من ضبط كل المعايير الإِنسانية والتقنية الداخلة في رعاية موسم الحج، بحيث ترتقي خدماتها ونوع هذه الخدمات إلى ما يتطلع إليه الجميع.
ولعل الأرقام هي إحدى الوسائل للرد على المغالطين والمتربصين، فحج هذا العام شهد وفود ما لا يقل عن مليوني حاج عمل على خدمتهم أكثر من مائتي ألف شخص، منهم 150 ألفا في القطاع الأمني و23 ألف موظف خدمي و8 آلاف موظف إرشاد، كما تم توفير 25 مستشفى ميدانيا و155 مستوصفا صحيا. أما في موقع الجمرات حيث تم التدافع فقد قامت المملكة بإصلاحات جوهرية هيأت هذا المكان الذي كان قديما مجرد حوض صغير لرمي الجمرات، واليوم تمت تهيئته وبناء أربعة أدوار كاملة تكون معدة لاستقبال أكثر من خمسة ملايين حاج، هذا بالطبع عدا عن التوسعة الهائلة للمسجد الحرام التي تعد من أكبر مشروعات التوسعة في العالم.
كل ذلك لم يمنعنا بالطبع من سرعة الاستجابة عند حدوث فاجعة التدافع، حيث تجري التحقيقات على قدم وساق لكشف ملابسات ما حدث وإعطاء السلطات السعودية صورة واضحة تمكن من فهم ما حدث، ولذا ولكي نرى الصورة في إطارها الحقيقي علينا ان نركز على محاولة فهم ما حدث وان لا يمنعنا ما نتعرض له من تجريح ومغالطة من الجلوس مع أنفسنا على طاولة المراجعة الوطنية الداخلية ومناقشة بعض من القضايا مثل:
أولا: ما تعلق بالطاقات البشرية العاملة على الأرض: حيث كان هناك ما لا يقل عن مائتي ألف رجل وامرأة يعملون في المشاعر الخ، وحتما فليس بالضرورة أن تتوافر الحكمة وسرعة التصرف في كل هؤلاء وليس بالضرورة أن يكونوا مدربين على التعامل (بعلمية ومهنية) مع الكوارث المفاجئة، فهل ساهم (سوء التقدير من قبلهم) أو ضعف الفهم للموقع حيث يعملون في (إعطاء تعليمات) لم تمكنهم من التصرف بالشكل الذي كان يمكن ان يحمي حياتهم، هذا عدا عن العوائق اللغوية التي تفرض نفسها كعامل رئيس، فحجاج بيت الله من كل حدب وصوب وبلغات العالم المختلفة فكيف يمكن للعاملين على الأرض وفي أوقات الطوارئ شرح التعليمات العاجلة؟
ثانيا: ضرورة مراجعة طبيعة الاتصالات وأساليب التنسيق بين القطاعات الحكومية المختلفة الداخلة في خدمة الحجيج وهي متعددة كوزارة الصحة ووزارة الحج والأوقاف ووزارة الداخلية والقطاعات الأهلية التطوعية الخ، ببساطة مئات من المؤسسات حكومية وأهلية.
المتابعة الدقيقة وإعادة بناء الأحداث كما صارت سيساعدنا على اكتشاف الخلل ان وجد ونعرف درجة سرعة استجابة القطاعات المختلفة للكارثة، ثم درجة جاهزيتها وكفاءة وجودة الخدمات التي قدمتها. صور رجال الدفاع المدني وجنودنا ومتطوعينا الذين يتراكضون لخدمة الحجيج كثيرة وهو ما يعني أن الطيبين هم الأكثر وهم يملؤون المكاتب والخيام، لكن ذلك لا يكفي لمنع حدوث كوارث بهذا الحجم.
ثالثا: ما تعلق بالحجيج من المسلمين أنفسهم: إِذْ يأتي 90 في المئة من دول نامية أو متخلفة، وهو ما يعني ان مفاهيم السلوك العام والعناية بالمجموع قبل الذات ونوعية استخدام المرافق والخدمات في المشاعر ربما لا تكون على المستوى المأمول، كما أشك ان الحجاج يعون أو يعرفون طبيعة المرافق في مكة والمدينة وطرق تنظيمها وتنوعها وتاريخ تطويرها: أي كيف كانت وكيف صارت حتى يدركوا مقدار الجهد الجبار الذي تبذله حكومة المملكة في رعاية الحج والحجيج، ثم ليعوا طرقا متنوعة للدخول والخروج والتصرف ومن ثم يستلزم التنسيق مع الدول التي يأتي منها الحجاج لإعطاء دورات إجبارية عن كيفية مواجهة الكوارث في الأماكن المزدحمة، وعمل تدريبات ميدانية تهيئ الحجاج نفسيا وعقليا على تصور ما سيوجهونه إِذْ لا أتوقع ان أحدا فعلا يتصور ماذا يعني وجود مائة ألف أو خمسمائة ألف فكيف بمليونين في نفس البقعة في نفس اللحظة، فماذا لو حدثت كارثة؟ أدبيات التعامل مع الكوارث طويلة ومعروفة وحققت تواجدا أكاديميّاً يجعل من الثقة بطرقها وممارساتها أمرا ممكنا خصوصاً في التخصصات الأمنية والنفسية، وما حدث هذا العام إضافة إلى الحوادث السابقة يجعل أمر تعلم مواجهة الكوارث وفهم خريطة المشاعر بالنسبة لكل حاج أمر ضروري يجب إقراره حماية للحجاج أنفسهم.
رابعا: ما تعلق بشعيرة الحج نفسها والتي يجب ان ننظر لها بشكل مختلف، فالمسلمون وبحمد من الله يتكاثرون في كل بقاع العالم، وهم بالطبع سيحاولون تحقيق أركان دينهم ومنها: الحج ولكن (لمن استطاع إليه سبيلا كما جاء في النص)، وهنا تأتي أهمية التذكير (وإعادة) التذكير للمسلمين بأن الكبير في السن أو المريض أو من لديه أطفال فلا داع لحجهم، حيث سيمثل وجودهم في المشاعر خطراً عليهم وخطراً على الآخرين كما سيحتاجون إلى رعاية إضافية مما يعقد الخدمات المقدمة للحجيج وهي أصلا كثيفة جدا في أيَّام الحج.
- في مقابل الزيادة المطردة في أعداد المسلمين فلن نتمكن مهما فعلنا من اصطلاحات ان نلبي رغبتهم (المفهومة) لأداء فريضتهم ولا بد من التعداد ووضع الحدود على ما تستطيع المشاعر استيعابه مع الحفاظ على سلامة الجميع، ولو افترضنا مثلا ان المشاعر ستستقبل كل عام مليونين من الحجاج فسنحتاج إلى مائة عام لتلبية رغبات مائتي مليون مسلم فقط وعلى هذا نقيس فما العمل؟
- في الختام أعرف ان هذه الحادثة قد أقضت مشاعر الملايين لكن لا خيار لنا إلا أن نتدارس ما حدث، وأن نحدد المسؤوليات الفردية والجماعية وأساليب العمل والتعاطي مع الحج شعيرة أو حوادث طارئة حتى نتأكد بإذن الله أننا قمنا بما علينا وأما الباقي فنوكله لمن خلقنا وهو أعرف بنا.