د. عبدالحق عزوزي
الكثير من الكتابات الجادة تشيد بطبيعة الشخصية المغربية التاريخية، فهي التي مكنت اليوم الفاعلين السياسيين والمجتمعيين داخل المجال السياسي العام، من إنجاح الميثاق السياسي والتعاقدي خلافاً لكل دول المنطقة، انطلاقاً من مبادئ التنازل والتوافق والثقة التي عليها نجاح الميثاق السياسي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة. وقاعدة التنازلات المتبادلة يجب أن تكون مقرونة بجهد فكري وميداني بل ورياضي يجعل كل الأطراف تعي حدود التنازلات وحساسية المجال التفاوضي السياسي. كما أن ذلك يستلزم ثقة متبادلة بين الأطراف ومخرجاً عقلانياً حتى تصبح المعادلة إيجابية، وإذا كانت سلبية فإن الآليات الديمقراطية تتلاشى وتتلوث.
ولقد مرت أربع سنوات على مصادقة المغاربة في استفتاء شعبي على وثيقة دستورية، سميتها في حينها مع فقيه القانون الدستوري الأوروبي أندري كابانيس بدستورانية الجيل الرابع في كتاب كتبناه سويا في هذا الموضوع، وهو دستور متطور؛ كما أنه دستور تم التفاوض في شأنه وليس دستورا ممنوحا؛ فاللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، والتي تكلفت بصياغته قبل عرضه على الاستفتاء، عملت في إطار تشاوري وتوافقي مع جميع مكونات الحقل السياسي والنقابي والمجتمع المدني. ولكن هاته الوثيقة هي جزء من المحددات التي تطبع تاريخ المجال السياسي والمجتمعي المغربي. فالمغرب لم يمنع قط التعددية السياسية، وذلك منذ أول دستور له سنة 1962. صحيح أنه في بعض الفترات كانت التعددية السياسية تحت المراقبة، ولكن المنع لم يطلها،كما وقع في تاريخ الدول المجاورة، بمعنى أن هناك تراكمات وتجربة وخبرة عند مختلف الفاعلين داخل المجال السياسي العام. وهاته التراكمات هي التي أنجحت الميثاق السياسي المغربي في إطار تسوية ذكية تغني البلاد والعباد من ويلات الفتن وسنوات من المجهول واللامسؤولية لأن الإصلاح يأتي من الداخل ويعكس التوازنات الدقيقة للقشرة الحامية للبلد والتي لابد من الحفاظ عليها لتبقى بعض عناصر الميثاق أساسية ودائمة في ترتيبات التحول.
ثم هناك مسألة الاعتدال لدى القوى السياسية التي مكنت من توسيع المجال السياسي وبمقايضة المشاركة بالاعتدال. فالملكية في المغرب كانت استباقية من حيث استجابتها السريعة للمتطلبات المجتمعية؛ كما أن الأحزاب السياسية كانت متواجدة، وذاقت حلاوة ومرارة تسيير الشأن العام منذ وقت طويل، فلم يكن هناك فراغ حزبي أو سياسي في يوم من الأيام.
ثم هناك إمارة المؤمنين عند العاهل المغربي والتي هي محل إجماع عند المغاربة، كما أنها لصيقة بطبيعة الشخصية المغربية عبر التاريخ والموسومة بقيم التسامح وتجديد دائم لروح الدين الوسطي المعتدل؛ فالثوابت الدينية والمسلمات في المغرب تمنع أي حزب سياسي من التطاول عليها أو المزايدة فيها أو تغييرها باستثمار الرأسمال الديني- السياسي، بحكم تواجد إمارة المؤمنين، وهو ما يجعل المجال السياسي العام خاليا من العديد من التناقضات الخطيرة التي نجدها في العديد من الدول المجاورة.
إذن، فرغم ما يمكن أن يكتب عن حصيلة أربع سنوات من مجيء دستور مغربي جديد، أظن أن عوامل الاستقرار والتنمية والتطور، تجعل من التجربة المغربية استثناء في محيطها الجهوي.
وقد عرف المغرب منذ ثلاثة أسابيع انتخابات محلية وجهوية غيرت من جغرافية منتخبي تسيير المدن والقرى والجهات من طرف الأحزاب السياسية، وهي انتخابات مرت في جو سليم ونزيه خال من اللايقين والمجهول الذين يطبعان العديد من دول المنطقة، بل إن إحداث مقارنة جيوسياسية مع تلك الدول تمكننا من القول إن المغرب، ومهما نسمعه من امتعاض لبعض الأحزاب المغربية بسبب الخسارة ونزوحها إلى الدرك الأسفل في قائمة الأحزاب الفائزة، فإن الميثاق التعاقدي السياسي المطبق في المغرب، مكن البلد من تثبيت دعائم الانفتاح السياسي من خلال انتخابات دورية ونزيهة وشفافة؛ فالإدارة لا تتدخل في النتائج، ولا توجه الإرادة الشعبية، بل هي فقط تنظم الانتخابات بحكم انتمائها إلى الجهاز التنفيذي وتسهر على سير النتائج، وهاته هي القاعدة عالميا.
شارك في هاته الانتخابات أزيد من 8.3 مليون مغربي ومغربية أدلوا بأصواتهم بكل حرية، مقارنة مع 7 ملايين مصوت سنة 2009 و6.1 مليون مصوت سنة2011. كما أن الإجراءات المتخذة، مكنت من تخفيض كبير في عدد الأوراق الملغاة، حيث لم تتعد هذه النسبة11 بالمائة مع العلم أن هذه النسبة كانت قد بلغت 18 بالمائة في اقتراع 2011. وهكذا يكون عدد الأصوات المعبر عنها هو 7.4 مليون سنة 2015، بالمقارنة مع 5 مليون صوت سنة 2011، أي بزيادة حوالي 50 بالمائة. وأجمع كل الملاحظين المحايدين مغاربة وأجانب على أن هذه الانتخابات قد مرت في أحسن الظروف بشفافية ونزاهة مطلقين وطبقا لأحسن المعايير الدولية.
وبقي أن هناك أزيد من 10 ملايين مغربي غير مسجل في هاته اللوائح، ويجب الاستثمار في هاته الشريحة لإقناعها بولوج عالم الانتخابات، لأن تسيير الشأن العام يتطلب منتخبين ويتطلب محاسبة ومساءلة وتمثيلية وهي لا يمكن أن تتحقق إلا بانتخابات دورية وباختصاصات متنوعة وإدماج الخاص والعام في مسلسل بناء مستقبله بنفسه.
وتجارب الدول العديدة المتطورة لم تصل إلى مرحلة النمو الاقتصادي والحداثي المتطور إلا بإصلاح العقل السياسي والانتخابي والتمثيلي، فاجتهد المشرع والفقيه القانوني ورجل الاقتصاد والمواطن العادي في التأصيل للبنات مؤسساتية متطورة ومتناغمة مع الحاجيات اليومية والدائمة للساكنة.
في المدن الكبرى كفاس والقنيطرة وطنجة ومكناس والدارالبيضاء ومراكش، وفي مدن كثيرة، أعطى الناخبون الأغلبية المريحة لحزب العدالة والتنمية في تسيير المدن، أي تسيير أكتر من 70 في المائة من ثروة المغرب؛ ثم ما يلمس كما لمسته شخصيا من حديثي مع العديد من فئات المجتمع المتنوعة بدءا من طلبتي في الكلية مرورا بفئات مجتمعية متنوعة من أطباء ومهندسين وأساتذة ووصولا إلى مسؤولين في قطاعات متعددة، فإن هذا التصويت ليس اقتناعا بالخط الإيديولوجي لحزب العدالة والتنمية وإنما اقتناعا بالخط الإصلاحي العام واختبارا لأسلوبه الإصلاحي بالذات ونواياه المعلنة؛ فالإيديولوجيات الزائدة لم تعد لا تسمن ولا تغني من جوع وإنما البرنامج الإصلاحي والتنموي والصدق والمسؤولية عند السياسي والمرشح هو الذي ينفع.. وهاته قناعة عند كل الطبقات المتوسطة وغيرها التي صوتت بكثافة يوم 04 شتنبر الماضي...
الذين صوتوا عليهم المغاربة سيسيرون المدن لمدة خمس سنوات، فإما ستكون حديقة لهم تمكنهم من البقاء فيها إن هم أحسنوا التدبير وأخرجوها من الفوضى العارمة بوضع الكفاءات في مكانها، وتطوير وتصور المشاريع المربحة، وخلق مبادئ القرب من الساكنة لحل المشاكل والبحث عن الموارد الضرورية وإحداث عقل تنموي جديد قابل لأن يشتبك اشتباكا منتجا مع أنماط للتسيير والتدبير تكون جديدة، وإما ستكون مقبرة لهم. وذاكرة الناخب في العالم دائما ما تكون ضيقة، وغضبته تكون بدون رجعة يعبر عنها يوم الانتخاب بكل مسؤولية.
زمن التحكم في الانتخابات في نظر الجميع قد ولى... فهناك عقل سياسي جديد في المغرب، وثقافة مجتمعية بدأت تسري في شرايين كل الطبقات في المغرب، وبدأت تتجذر لبنات سلوك انتخابي جديد حيث إن الصوت الانتخابي أصبح مسموعا ومقدسا لا يحق لأحد شراؤه أو بيعه أو انتهاك حرمته أو حجزه... فوزارة الداخلية اليوم لا تعطي الهدايا لأي حزب ولا لأي مرشح، والصوت المغربي أصبح ذا حرمة، ومن زال يراهن على سلطة المال فإنه يراهن على خزعبلات ذبلت مع دستور سنة 2011، هاته مسائل انتهت نهائيا في مدن المغرب بفضل الوعي، وستنتهي نهائيا في البوادي بفضل تزايد الوعي.