هدى بنت فهد المعجل
ديموستينس (384 ق.م - 322 ق.م)!! من يا تُرى ديموستينس!؟
إنه عظيم خطباء اليونان في زمانه. عاش هذا الإنسان إبان مقاومة أثينا لفيلبيوس المقدوني، وهي فترة دفعت بفن الخطابة إلى ذروة عالية عند اليونان.. فقد كان رجل دولة إغريقياً وخطيباً بارزاً في أثينا القديمة.
تُشكّل خطبه تعبيراً هاماً للمهارة العالية للثقافة الأثينية القديمة، وتوفر فهماً شاملاً لسياسة وثقافة اليونان القديمة أثناء القرن الرابع قبل الميلادي..
وما الغريب أو الجديد في هذا الكلام!؟
الغريب والجديد أن ديموستينس هذا كان هزيل القامة، ألثغ، ضعيف الصوت، سريع التنفس، مختلط مخارج الألفاظ، مما كان يفرض عليه تقطيع حديثه حتى يفقد الكلام تأثيره بل ومعناه.. فكيف أصبح عظيم خطباء اليونان في زمانه!؟.. كانت اليونان في تلك الفترة تعج بالخطباء ولأنه أدرك ذلك، مارس تحديات عدة من أجل تجاوز الجدار الذي يفصل بينه وبين احتراف الخطابة، رغم أن اليونان لم تكن بحاجة لمزيد من الخطباء. راح يطلب فن الخطابة على يد أبلغ خطباء زمانه، متبعًا البرامج المعتادة للخطباء في ذلك الزمان.. ولكن بعد انتهاء فترة التدريب، لم يثر حديثه في الناس.. حتى بعد هذا البرنامج.. سوى الضحك والرثاء.. ضحكاً ورثاء لم يردعه عن مواصلة تحديه وإصراره في تجاوز تلك العقبات أو إدارة ظهرها لفكرة التحدي.. بل رأى أن البرنامج العادي لإعداد الخطباء لا يناسبنه؛ لأنه لم يفصّل على مقاسه، ومضى الرجل في وضع برنامج خاص به، حيث استأجر غرفة بأحد البدرومات، اعتزل فيها الناس لمواصلة التدريبات الشاقة، وأمام المرآة جهد في تعلُّم التمثيل، وفي الهواء الطلق جدَّ في تدريب أوتار صوته، وكثيرًا ما بقي وحيدًا يمارس التدريب لشهرين أو ثلاثة شهور، مغالبًا إغراء الاجتماع والاختلاط ببعض الحيل الساذجة المضحكة، كأن يحلق نصف رأسه، ويترك النصف الآخر، حتى يخجل من الظهور أمام الناس مهما استحكمت رغبته.. ولم يكتف ديموستينس بالوحدة والمثابرة، بل عمد إلى تحويل كل لقاء وكل حديث يعرض له مع الآخرين إلى مادة للتدريب الشاق الدءوب، فكان يهرع فور أن ينفرد بنفسه إلى مرآته، ويحاول أن يستعيد ما قاله الآخرون، وما قاله لهم، مجربًا كل ما يطرأ على باله من طرق التعبير، ودون إهمال لأية هفوة أو جزئية صغيرة. هذا كما لم يتورع ديموستينس في سبيل الخطابة عن فعل كل ما بدا غريبًا شاذًا ساعتها، فللتغلب على همس النطق وضعفه، كثيرًا ما كان يستعيد مقاطع طويلة من الشعر بصوت عالٍ، وهو يضع حصاة في فمه، ولتحسين قدرته على التنفس كان يواصل الصياح، وهو يجري على المنحدرات حابسًا تنفسه؛ حتى يتم كمًّا محددًا من الكلمات.
وهكذا انتصر الرجل خطوة خطوة، على ما كان يتسم به من نواقص، ودعم بمثابرته الاستعدادات التي لم تبرز أو لم يهتم بتنميتها منذ مولده حتى أصبح عظيم خطباء اليونان في زمانه بفضل تحدياته الصارمة، وليس بسبب خضوعه لبرامج تأهيل نفسي لدى معالج نفس؛ ذلك لأن المعالج لن يأتي بنتائج مذهلة ما لم يكن المتعالج متهيئاً نفسياً وذهنياً. أليس الطفل مع أول خطوة تعلمها، وهو في سبيله لتعلُّم المشي يكافح بعض الألم عند السقوط ومع التعثر ساعياً لتحقيق ذاته، رغم تجارب المشي المؤلمة التي يمر بها.. إذاً الكبير أكثر وعياً ومعرفة بأهمية تحدي الصعوبات وتجاوزها بعناد وإصرار وكفاح قبل محاولة خضوعه لمعالج نفسي قد يتعثَّر مع المريض عندما يصعب عليه تهيئة نفسه للعلاج.