د. محمد عبدالله العوين
د. محمد عبدالله العوين
رغم العداوات التاريخية بين عدد من دول القارة الأوربية، ورغم اختلاف اللغات والديانات والثقافات والعرقيات، ورغم تنائي المسافات بين أقصى دولتين في القارة الأوربية شرقا وغربا؛ إلا أن ساستهم وحكماءهم لم يجدوا خيارا آخر إلا السلام بديلا للحروب الأهلية بين مواطني الدولة الواحدة، والبينية بين دول القارة واختاروا البناء بديلا للخراب، والتعايش بديلا للتنافر، والتكامل بديلا للصدام، والتآزر بديلا للفرقة والشتات!
لكن؛ متى وصلوا إلى هذه الرؤى الواعية العاقلة الحكيمة ؟ وكيف تحولت تلك الأحلام المثالية من غايات بعيدة إلى واقع عملي تعيشه الآن دول أوروبا في شؤونها السياسية والعسكرية والاقتصادية والحدودية كافة؟!
لقد علمهم الدم أنه لا يقود إلا إلى مزيد من الدم!
وعلمتهم الحروب أنها لا تلد إلا حروبا أخرى!
ودرستهم الآلام ألا شفاء منها إلا بقطع وتين ما يسببها وهو عدم التعايش!
غاصت أوروبا في مستنقع النزاعات قرونا؛ ودمر بعضها بعضا، وثارت شعوب الدولة الواحدة على حكامها كما يثور اليوم بعض شعوب العرب، واشتعلت أسباب الخلاف التي لا تكاد تنتهي بين عدد من دول الجوار الأوربية كما تشتعل الآن بين عدد من الدول العربية؛ ولكن الفارق أن معظم النزاعات الأوربية القديمة كانت لا تندلع بتدخل خارجي كما هو الشأن العربي؛ بل كانت منافسات أوربية على القيادة والسيطرة والتأثير.
كان عام 1945م العام الأخير الأحمر في تأريخ رزايا الحروب والنزاعات والعداوات الأوربية؛ فبعد حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس وأهلكتا البشر والحجر تاب الأوربيون من توجيه السلاح إلى صدور بعضهم، ومن تدمير بلدان بعضهم، ومن استنبات الآلام والجراح واستدرار الدم بين شعوبهم، وصدروا الخلافات والعداوات والثارات والولع بالانتقام واستخدام السلاح إلى من لم يستوعب بعد الدروس المؤلمة التي مرت بهم ولم يصل إلى ما وصلوا إليه من حكمة لم تنبثق أمام أعينهم فجأة؛ بل ولدتها القرون المرة الحمراء من الدم والألم والدمار.
لقد تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم في حق أنفسهم، وصدروا خطاياهم لمن لم يذق بعد مرارة ذنوب النزاعات والحروب الدينية والطائفية والعرقية والشعوبية.
وإن مما يؤكد توبتهم الصادقة بعد الحربين العالميتين الأليمتين التي بدأت أولاهما 1914 وانتهت 1918م وثانيتهما 1938 وانتهت 1945م أن اتفاقات الشراكة والتعاون والتآخي والدفاع والاقتصاد والحدود التي نجحوا في الوصول إليها لم تبدأ في الظهور إلى العلن إلا بعد توقف الحرب العالمية الثانية بسنوات يسيرة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة أو أقل؛ فحلف شمال الأطلسي « الناتو « الذي يضم ثمانا وعشرين دولة تم الاتفاق على تكوينه في مدينة بروكسل عام 1949م وتعهد أعضاؤه بحماية الدول المنتمية إليه بالقوة العسكرية، والسوق الأوربية المشتركة تم الاتفاق عليها في إيطاليا عام 1951م وبدأت بالعمل 1957م، والاتحاد الأوربي تم الاتفاق عليه في روما 1958م وضم ثمانا وعشرين دولة تنتهج سياسة زراعية وصيد بحري واحدة وبعملة موحدة في تسع عشرة دولة؛ هي « اليورو « واتفاقية « شينجن « التي تهدف إلى إلغاء مراقبة الحدود بين دول أوروبا تم الاتفاق عليها 1995م ووقعت عليها ست وعشرون دولة، منها اثنتان وعشرون من دول الاتحاد الأوربي.
هذه هي أوربا الموحدة الآن في كل الجوانب، تبدو كدولة واحدة بجيش واحد من خلال الناتو، وبعملة واحدة من خلال اليورو، وبتأشيرة سفر موحدة من خلال « شينجن « وبتكامل اقتصادي من خلال السوق المشتركة!
لم تثر دولة على دولة بعد أن تابوا توبة نصوحا عام 1945م، ولم تشتعل شرارة حرب أهلية أبدا بسبب اختلافات دينية أو تغول إحن طائفية أو عرقية.
أما نحن العرب فنخوض منذ سنوات خمس ما خاضوه من حروب، ونتصارع فيما تصارعوا فيه من مذهبيات وأيدلوجيات وكأننا نكرر تأريخهم المر؛ فمتى نصل يوما إلى الحكمة التي وصلوا إليها ونعي أن التعايش والتكامل والاتحاد والعمل والإنتاج وإعمال العقل المبدع هو منطلق الأمن والاستقرار والقوة والتحضر؟!.