د. محمد عبدالله العوين
اشتغلت الجماعة المؤدلجة نفسها عقدين في السر من نهايات الثمانينيات الهجرية ومطلع التسعينيات إلى قرب نهاية العقد الأول من هذا القرن الهجري؛ أي عام 1410هـ وركزت عملها خلال عشرين عاما على بناء الكوادر واستنبات جيل جديد قادر على تحمل مسؤوليات النهوض بأعباء «العمل الإسلامي» والتدرج به حسب ظروف كل مرحلة، وكانت تهيئة الكوادر شديدة الدقة من حيث بنائها فكرياً وسياسياً وحصولها أيضا على أعلى الشهادات العلمية من الداخل أو الخارج لدفعهم إلى الصفوف الأولى والمراكز القيادية في الجهاز الحكومي؛ لتتسع لهم من خلال مواقعهم الوظيفية والأكاديمية فرص التأثير والتغيير والاستقطاب.
ولأن حجم الجماعة ومبلغ تأثيرها لا يكاد يبين في الحياة الاجتماعية العامة إلا من خلال التحويل البطيء لمظاهر الحياة بإسهامهم في المناشط أو في بعض وسائل الإعلام، وهو أمر قد لا يجد من يقلق منه أو يبدي احتجاجا عليه؛ لكن لا يخفى أن ثمة من يتربص من القياديين أية فرصة سانحة للزج بالجماعة في معمعة أية أزمة عارضة قد تحدث؛ لقياس الرأي الاجتماعي حولها ورصد مستوى رد الدولة على حضور الجماعة، وهو ما حدث في الأزمة الأولى التي أعقبت عشر سنوات عسل مرت بعد أحداث الحرم الشريف المؤلمة التي قادها الخارجي جهيمان عام 1400هـ.
استغل قياديو الجماعة غزو العراق للكويت ومجيء قوات دولية؛ فأصدروا البيان الأول المؤجج، وتطلعوا من إصداره إلى قياس جانبين: رد فعل المجتمع معهم أو ضدهم، ومبلغ رد السلطة من حيث القوة أو الضعف، ثم حدثت في تلك الأثناء الحركة الأولى لقيادة المرأة للسيارة من التيار التنويري الذي رأى أيضا أن الفرصة قد تكون سانحة لتمرير هذا المطلب وتحقيق غاية بعيدة يشتغل عليها التنويريون بهدوء منذ أن بدأت بواكير التحديث والبعثات والتواصل مع الثقافات الأخرى، وبدأ تكاثف ازدياد ضغوط الحياة المادية والاجتماعية على الأسرة السعودية باستجلاب عشرات الآلاف من السائقين الأجانب.
وعلى الرغم من أن رد فعل السلطة السياسية كان حازما مع التيارين الحزبي والليبرالي؛ إلا أن الجماعة لم تتلق التوجيه بذكاء وتستوعب رد الفعل، وأن تكون مشاركتها بالرأي من خلال وسائل الإعلام المفتوحة والمشروعة كغيرهم ممن لهم رأي من الكتاب على اختلاف أطيافهم؛ بل ذهبت بعيداً لاحتلال مزيد من المساحة في الحراك الاجتماعي العام متساوقة مع ما يستجد من أحداث وبلهجة لا تخلو من عبارات التحشيد وعدم الخوف من تصعيد المواجهة، وتبينت لهجة القوة الموهومة عند الجماعة بعد أحداث11 سبتمبر متخيلة أن الحدث المأساوي قد يكون انطلاقة جديدة بقسوة العنف والتدمير ارتكبها الشق الفدائي في الميدان لتتقدم الجماعة خطوة إلى الأمام وزحزحة من يقف في طريقها من الأنظمة الحاكمة في المنطقة للوصول إلى السلطة؛ فصدرت البيانات المتوالية المتلاعبة بالألفاظ حسب الظرف السياسي المشتد أو المتسامح؛ لكي تنجو أو يسلم أبرز كوادرها من الاعتقال أو المنع من السفر أو المطالبة برأسه من دول عالمية تعرضت للأذى من جماعات وليدة متحورة بأسماء جديدة من الجماعة الأم، اتخذت صيغا جديدة كما يتحور الفيروس للقدرة على مقاومة المضادات الحيوية.
واتبعت الجماعة الأم سياسة المكر والخداع واستغلال نقاط الضعف حسب الأزمات كما تتوهم وغض الطرف عن الأبناء المنسحبين أو المختلفين معها في أسلوب العمل والمتكونين حديثا كالنصرة وداعش ومئات الأسماء الأخرى من الجماعات التي تتوالد كالفطر؛ وعلى الأخص في ميادين الحروب والصراع.
وما يصدره - أحيانا - طيف من أطياف الجماعة من استنكار صيغ العنف عند المتحورين الجدد من سلالات الفكر المؤدلج ليس إلا من باب نفي التهم والحفاظ على البنية التحتية من الانهيار.
والمعنى الحقيقي المكشوف لإصدار البيانات - لا المقالات التي تحمل رأيا - أن دولة أخرى « هي الجماعة « موجودة أو تتشكل داخل الدولة الشرعية الرئيسية، وأن الجماعة تسعى إلى أن تبقى الأزمة مشتعلة في حالة من التدوير والتوالد تتيح اختطاف المجتمع والدولة بالكامل.
هذا ما تريد الجماعة أن تصل إليه من بياناتها التحريضية.