د. محمد عبدالله العوين
منذ اندلاع ثورات الخريف العربي مطلع عام 2011م بدءاً من تونس ومرورا بمصر وسوريا واليمن اتخذت المملكة موقف المعين والنصير لكل قطر من الأقطار العربية التي اشتعل فيها حريق الثورات، وسعت جاهدة إلى تجنيب الشعوب العربية قدر الوسع والطاقة ضيم تسلط الدكتاتوريات العسكرية وتجنيب تلك الأقطار أيضا دخولها في حالة فوضى عارمة لا يعرف فيها الحابل من النابل!
على أن ما كانت المملكة تخشاه من نتائج متوقعة لتلك الثورات قد حدث بالفعل؛ فذاقت تلك الأقطار مرارة التسلط وفحش الاستبداد بالسلطة واستخدام أقسى درجات العنف كما هي الحالة السورية الآن، ودخل عدد من تلك الأقطار في مستنقع مرير من التجاذبات الدينية والطائفية المسيسة، ومن الاستقطابات المكشوفة لدول إقليمية وعالمية.
وأكبر مثال على ذلك حالتا اليمن وسوريا؛ فقد انحرف مسار انتفاضة الشعبين من تطلعات متفائلة بمستقبل أكثر حرية وتنمية ورفاهية إلى أن يكونا رهينين إلى ولاء خارجي إقليمي مكشوف؛ فسلم علي صالح اليمن إلى إيران بتواطؤ وتفاهم مع الحوثيين بعد ستة حروب؛ رغبة من عفاش في الاستمرار في السلطة ورغبة من الحوثي في تحقيق وجود طائفي ضيق الأفق بمساعدة الفرس؛ الذين يمارسون التقية الطائفية المكشوفة لتحقيق مطامعهم في الهيمنة على المنطقة العربية كلها.
وقد هيأت خيانة صالح وعمالة الحوثي البيئة اليمنية لأن تكون أرضا خصبة صالحة لتكون الجماعات المتطرفة من كل لون؛ بدءا من القاعدة وليس انتهاء بداعش؛ ليستخدمها النظام المهتز حين كان في السلطة وبعد أن خلع منها في تهديد الشعب اليمني وجيران اليمن بغول جماعات التطرف.
وخلفت سياسة بشار في سوريا في تعامله مع شعبه بدموية وجبروت وتسلط لم يحصل له مثيل على مدى التاريخ إلى أن تتشكل في البيئة السورية جماعات متقاتلة يربو عددها على مائة جماعة تبدأ من الوطنية السورية المعتدلة وتنتهي بداعش التكفيرية الخوارجية، وقادت ولاءات النظام سوريا إلى أن تسقط في الحضن الفارسي من باب التعلق بطائفية ممجوجة تتخذ كعمامة زائفة، وهو ما دعا إلى تشكل حالة طائفية أخرى مضادة، وساعد على استفحال ظاهرة التطرف وشيوع مصطلح التكفير وتهيئة مناخ مناسب لتقاطر المتطرفين من كل أنحاء العالم، ومن هنا أصبح تشكل وصعود ظاهرة الجماعات المتطرفة خطرا على العالم كله، وخطرا أكبر وأشد على دول الجيران القريبة، وهو ما نبهت المملكة إليه بأن خطر التطرف سيصل إلى العالم كله خلال أشهر قليلة.
وقد طال أمد هذا الصراع بين الجماعات الثائرة نفسها، بحيث أصبح التمييز بين معتدل ومتطرف أمرا شاقا، وطال الصراع أيضا بين النظام وتلك الجماعات، وزادت الحيرة بتدخل أطراف دولية؛ لعل آخرها انخراط الروس في معمعة الحالة السورية؛ رغبة منهم في الانتصار لحليفهم القديم، والقضاء على «داعش» ومن لف لفها من الجماعات المتطرفة كما يقولون.
وأمام هذا المشهد السوري المضطرب والغائم يخرج بيان 52 الداعي إلى التحريض على إثارة حماسة شبابنا ودفعهم إلى الانخراط والتورط في المستنقع السوري، وزجهم في أتون لهيب حرب أهلية غير معروفة الراية ولا الاتجاه، وتقتل فيها الجماعة الجماعة، ويدمر فيها الفصيل الفصيل، وتشيع فيها أنهار الدم بلا سبب، وتروج فيها الأفكار المنحرفة التي تدمر البلدان وتهلك الشعوب، وتنتشر فيها جرائم الصلب والسبي والاغتصاب والتعذيب.
أيمكن والحالة هذه أن يخرج هذا البيان داعيا إلى مزيد من صب الزيت على النار، وكأن أصحابه يريدون استحياء التجربة الأفغانية من جديد، وكأننا لم نتعظ مما حدث بعد دفع شبابنا إلى المحرقة الأفغانية؟!
إن لبلادنا حماها الله قيادة سياسية حكيمة عميقة التجربة تقرأ الأوضاع بوعي شديد وتسعى دائما إلى تجنيب البلاد خطر الزج بها في صراعات متشعبة الجذور بعيدة الآثار، ومن يقترف إصدار بيانات التحريض على توريط أبنائنا في تلك الصراعات أو الحروب الأهلية وما ينتج عنها من فوضى عليه أن يتحمل مسؤولية تحريضه الأهوج، وأن يغلب العقل على العاطفة وأن يجعل سلامة بلادنا من تداعيات التوريط والتحريض المندفع الجاهل فوق كل اعتبار.