د. محمد عبدالله العوين
لم أكد أكتب مقالتي يوم السبت عن الداعشي المختبئ خلف اسم مستعار؛ هو «طفشان» مشيدًا بعدالة المحكمة الجزائية التي حكمت بسجنه سبعة عشر عامًا ومنعه من السفر مدة مماثلة؛ نظير ما كان يكتبه من تحريض وتشويه وتشكيك واتهامات باطلة وما كان يقوم به من تواصل مع عناصر وجهات إرهابية في الداخل والخارج، وقلت أن بلاءنا ليس من الأعداء الظاهرين المكشوفين فحسب؛ بل من المنافقين المختبئين الساعين في الظلام إلى جلب الظلام والخراب والهلاك والنازعين يديهم من سلطة الدولة الناقمين على أهلهم ووطنهم الطامحين إلى سلطة أخرى ومفهوم للوطن آخر، زين لهم الشيطان وأعوانه من مردة الإنس وأبالستهم أن مجتمعهم كافر ضال، بما فيه من آباء وإخوان وأعمام، وقادة وعلماء ورجال أمن ومثقفين وكتاب وأصحاب رأي.
وكنت ذهبت إلى أن تأثير هؤلاء الذين أسميتهم الطابور الخامس أشد خطرًا وأعظم جرمًا من الأعداء الظاهرين؛ فهم يبثون السموم عبر وسائط التواصل، ويشيعون الخوف والقلق والتوتر، ويهونون من شأن الحكام ورجال الدولة، ويرفعون من شأن من بسطوا إليهم أيديهم بالبيعة ممن انتحلوا كذبًا صفة الخلافة على المسلمين عن طريق الفرض والإكراه والتغلب بالدم والإجرام والغزو والسبي وانتهاك المحرمات في المسلمين وأهل الذمة.
ما كدت أقلب الرأي في إفساد أولئك بالرأي عبر الشبكة العنكبوتية إلا وتفاجئنا الأحداث ليلة السبت الفائت بجريمة إطلاق النار على المارة في محيط مسجد الحيدرية بمدينة سيهات في محافظة القطيف، كان ضحية تلك الجريمة الشنيعة المؤلمة خمسة قتلى وتسعة مصابين، رحم الله من توفي ونسأل الله الشفاء للمصابين، وقد تبنى تنظيم «داعش» الإرهابي هذه العملية المنكرة وزعم أنها جهاد في سبيل الله، وأن أحد المنتسبين إلى التنظيم المجرم الإرهابي المدعو «شجاع الدوسري» هو من ارتكب ذلك الجرم.
لقد تتبعت الجرائم الإرهابية التي وقعت في بلادنا منذ أن كشر الفكر التكفيري عن أنيابه واستفحل خطره وعم شره خلال عشرين عامًا؛ فوجدت أن الفاعلين لم يأتوا إلينا من كوكب آخر، ولا تسللوا لنا من بلد عدو، ولا غزونا من بيئات نتنافر معها دينًا أو سياسة أو منهج حياة؛ بل إن منفذيها منا وفينا، بدءًا من حادث تفجير العليا عام 1416هـ إلى حادثة سيهات قبل يومين، مرورًا بحوادث تفجير المساجد والحسينيات وقتل الآباء والأخوال وأبناء العم أو التوعد بقتل الأقرباء من إخوان وأعمام وأنساب وغيرهم كما دعا إلى ذلك مغفلون جهلاء يدعون انتسابهم إلى التنظيم الداعشي.
إن أعداءنا الآن ليسوا غرباء ولا نكرات، وليسوا غزاة ولا أجانب، وليسوا متسللين أو مرتزقة مكلفين من أعداء؛ بل هم بعض أبنائنا الذين ضلوا وغووا، وهم من تربوا في بيئتنا ونشؤوا بيننا، وتلقوا ما تلقينا من معارف وعلوم، وصلوا في مساجدنا واستمعوا إلى خطبنا ودرسوا في مدارسنا واستوعبوا مناهجنا التي درسناها فلم ننحرف كما انحرفوا، ولم نتنكر كما تنكروا، ولم نرتكب ما ارتكبوا، ولم ننزع يدًا من بيعة شرعية لولي الأمر كما نزعوا، ولم نكره وطننا كما كرهوا، ولم نستدع إلى بلادنا العدو كما استدعوا، ولم نتباشر بمصيبة تقع بعد حادث إجرامي ارتكبوا جنايته كما استبشروا!
إذًا ما الذي غير بعض أبنائنا علينا؟ ما الذي حولهم من محبين موالين معترفين بفضل وطنهم عليهم معتزين به متمسكين بولائهم لقيادته إلى أعداء كارهين نافرين ناقمين، يعتقدون القتل جهادًا، وإراقة دم الأبرياء شهادة، والبيعة لعدو إخلاصًا، ومحاربة المصلين العابدين القائمين على خدمة بيوت الله جهادًا لمرتدين وكفرة؟!
إننا ونحن نواجه هذا التنكر الأحمق لمفهومات الدين السمحة غباء أو استغباء أو تذاكيًا؛ علينا أن نعيد النظر جملة وتفصيلاً في مفهومات جيل لم يعد يؤثر فيه أبدًا تعليمنا ولا مدارسنا ولا خطبنا ولا إعلامنا ولا تربية أسرنا. والله المستعان.