د.فوزية أبو خالد
أشعر بخيانة ضميري لو كنت سأكتب عن أي موضوع آخر سوى فلسطين اليوم. أشعر بالاستخفاف بعقلي وعقول القراء لو أنني انشغلت بأي قضية أخرى غير ما يجري في القدس اليوم.
أشعر بالتجرد من إنسانيتي لو أنني تظاهرت بالصمم والبكم والعمى والشلل فيما جيش الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني وساسة الاحتلال ولصوص أرض فلسطين بمسماهم المضلل «المستوطنون»،
الذي صار الإعلام العربي يردده أكثر منهم، يتصرفون على أننا أموات في طول العالم العربي وفي عرضه أيضاً، وأنه لم يبق منا إلا بعض شباب فلسطين الغر، وبعض أطفال فلسطين الطائش، وبعض نساء فلسطين الملتاثات بالأمل والحبل، ممن لا يجدي التعامل معهم إلا بإلحاقهم بموتى العرب حكاماً وشعوباً، ضمائر ورشداً.
والواقع أن ما يحدث على أرض فلسطين مصحوباً بانقسامنا بين غفلة عربية غامضة، وكأننا في غيبوبة جماعية، وبين حالة أشد عتمة وغموضاً من تغول حروبنا الداخلية في دم أطفال العراق وسوريا واليمن, يُشعرني بالخجل مني، من تلك البنت التي كانت ترفع علم فلسطين في مظاهرات الطلاب بالجامعة الأمريكية ببيروت وبأمريكا عند البيت الأبيض وأمام مبنى الأمم المتحدة، وفي مسيرات السلام، وكأنها وكل ذلك البحر المائج من الطلاب والطالبات العرب وغير العرب من المؤمنين بعدالة قضية فلسطين مشتقون من أشجار زيتونها ومن تربة حواكيرها ومن عناصر مائها ومواويل نسائها.
ما يحدث على أرض فلسطين اليوم يُشعرني بالحياء من أحياء فلسطين وتربتها، من أطفالها وكتائب شهدائها، من رجال غسان كنفاني تحت الشمس ومن عائد إلى حيفا, من روايات سحر خليفة وأغاني مارسيل خليفة، ومن شعر محمود درويش وقصائد أحمد دحبور وعز الدين الناصرة، ومن هديل الشاب الصاعد محمد عساف وكتابات إميل حبيبي الساخرة وشاعرية سلمى خضرا الجيوسي ولوحات كمال بلاطة وشموط، ومن باقات أمل قطفها حقد الاحتلال بالرصاص الحي قبل أن تتعدى مرحلة البراعم.
أشعر بالخجل لما يحدث في فلسطين اليوم مني، ولكني أشعر بحياء أشد من معلماتي (انشراح ورحاب وظريفة ونايلة وموهبة ونها ومهجة ونفود وانتصار) اللواتي علمنني وجيلاً عريضاً من تلميذات المدرسة الابتدائية الخامسة بحي الرويس والمدرسة المتوسطة الأولى، بالقرب من قبر أمنا حواء بجدة، تلك الأسماء السرية لأرض فلسطين. كانت فلسطين تتورد على وجوه أولئك الشابات، وتتوالد أسماء وأسراراً لم تمر بخيالنا الغض من قبل. وكان منها انتفاضة اسمها الكرامة، وعز اسمه أولى القبلتين، وشموخ اسمه أرض البرتقال، وقبة اسمها الصخرة، ومذبحة اسمها دير ياسين، وأخرى اسمها كفر قاسم، وجبل اسمه الكرمل، ومدن بأسماء شاعرية (بيسان ويافا وجنين والناصرة و..و..)، فصرنا نعرف جغرافيتها بما لا يقل عن معرفتي بدخنة والمربع بالرياض، وبالهنداوية والشرفية بجدة، وبالمثنى وشهار والهدى في الطائف. فلماذا لا أستحي ويستحي جيلي كله وهو يتابع الحدث الفلسطيني فلا نشعر إلا بعزلة في المشاعر والتفكير تجاه القضية الفلسطينية، وكأننا مصابون بالتوحد لفرط ما انفض الرهط عنها؟ كيف لا نستحي وحين تلوي وحشية الحدث على أرض فلسطين اليوم حبال أعناقنا نتلفت فلا يُرى جيل عربي واسع من أجيال الشجن الفلسطيني إلا من يجهل قضية فلسطين جهلاً مطبقاً، وإن عرف عنها شيئاً فلا يعرف إلا أنها شأن فلسطيني متعثر، لا شأن للشباب العربي به.
حدثني شاب، أعلم شفافيته، بأنه كان في مقهى في إحدى المدن الخليجية الفارهة، ونما إلى سمعه حوار شباب على مشارف العشرينيات، أو بعدها بقليل، يتحدثون عن «دولة إسرائيل» على أنها دولة عربية صديقة. هذا ما يظنه بعض الأجيال الجديدة فيما تربينا حقاً على أنه «الكيان الصهيوني الغريب ودولة العدو الإسرائيلي المحتل». وكنت سأعتبر ذلك شطحة نادرة من شباب متهكم لو لم أسمع - وليتني لم أسمع - شابات في بيروت يتحدثن عن حلم زيارة «إسرائيل»، وحين تدخلت للتصحيح بقول «تقصدن فلسطين؟» ضحكن من رومانسيتي، إن لم يقصدن سذاجتي. بل في أجيال لاحقة، لا تبعد كثيراً عن جيلي، صار الحديث عن فلسطين خارج فكر التسوية الاستسلامي يُعتبر من تيار موضة السبعينيات البائدة، لا قضية ضمير ورشد ووجدان، ولا قضية شعب وأرض وحق ومبادئ أساسية، لا يتخلى عنها إنسان بكامل قواه العقلية والضميرية إلا وخرج من الانتماء إلى بني الإنسان.
تغريدات في الصميم:
«لا بد أن أوباما فوجئ وارتبك حين سمع الملك سلمان في زيارته لأمريكا يحدثه عن فلسطين؛ وكان يتوقع أنها طُويت في النسيان بعد قفزة إيران إلى الحجر الأمريكي».
كتب عبدالمحسن هلال في سياق الأحداث الإرهابية الموجعة التي يمر بها الشعب الفلسطيني على يد الاحتلال الصهيوني ما معناه: «ليخبرنا من يقول إن فلسطين لم تعد قضية ضمير بل قضية مفاوضات سياسية، هل أولئك الشباب الذين يواجهون السلاح الحي بصدور عارية مجرد أصنام أو عمالة مستقدمة؟؟؟».
وكتب أحمد عدنان: «ما يجري في القدس انتفاضة أنا معها قلباً وقالباً؛ فإذا رخصت القدس أصبحنا جميعاً بلا قيمة».
وكتب د. معجب الزهراني في تعليق على صورة أطفال يلعبون فيما جندي إسرائيلي يشهر عليهم السلاح ما معناه: «يبدو الأطفال في الموقف الصعب أكثر رباطة جأش من الجندي الجبان الذي بدا متوتراً وخائفاً». أما السر فهو الفارق بين صاحب الحق وبين السارق.
وكنت قد كتبت أمام نفس لقطة الأطفال والجبان: «لا أحد يقول أو يكتب لماذا ننتبه إلى ما يفعل الاحتلال الصهيوني بالأطفال؛ لأن ما تفعله الأنظمة العربية الساقطة لا يقل بشاعة؛ فإرهاب الأطفال وترويع الهواء والتسلية بقتل الشجر والبشر والحجر هواية مشتركة في هوية واحدة بين الاحتلال وبين أنظمة محلية فاشية تفعل نفس الأفعال».
وبعد، من يرد الاعتبار للقدس لفلسطين للعرب في نفوس الأجيال من الخليج إلى المحيط قبل أن نصبح تداعياً وتفريطاً عبرة للأجيال، ولن نجد هضبة للتنهدات نبكي عليها؟