د.فوزية أبو خالد
تشغلني بوصفي مواطنة وكاتبة رأي عدد من القضايا الملحة التي لا بد أن الكثير من المواطنين والمواطنات يتقاسم معي أو أتقاسم معهم ملح قلقها، وطحين هواجسها، إلا أننا بوصفنا بشراً مميزين بالعقل ومعرضين في الوقت نفسه للأقدار لا نستطيع أن نتعامل مع الواقع دون مجاهدة النفس؛ لنتعلم دربة الاختيار، ولتدريب حواسنا على «نبؤة» الاستشعار.
وقد تذكرت «قراءة ماكرة» لواحد من عشاق المعرفة مثلي, أثناء محاولتي المتعثرة لحسم أمري في تخير ما أكتب لهذا الأسبوع من سيل المواضيع التي تتنازعني. تقول تلك القراءة: إن الخيال ينتجه الحالمون، والحكمة ينتجها الفلاسفة، والحلول يحاول توخيها المحللون، و»النبؤة» يجترحها العباقرة، أما الأزمات فمن نصيب الساسة، كما أن الحروب من تخصص الجنرالات، ولكن يتورط فيها الجميع بدرجات قد تكون بالغة الخطورة، وخصوصاً على ضحاياها المحشورين بين سندان القوى المتقاتلة ومطارقها من المدنيين رجالاً ونساء وأطفالاً.
* * *
حكام انتهت صلاحيتهم سياسياً وإنسانياً
عبثاً أجرّب أن تخونني ذاكرتي فيما أنا جادة أتخبط في محاولة اختيار موضوع لهذا المقال من تلك الموضوعات الهادرة في دمي، عن التحولات، عن الفقر، عن البطالة، عن تلبيس الدين بالسياسة، عن الأحياء الغافية على المجاري الطافحة، عن خرافة دسائس النساء للنساء، عن غلاء المساكن ورخص المهور، عن نسياننا أو غفراننا لوجود دولة العدو الإسرائيلي الصهيوني على أرض فلسطين, عن سجون مصر ومنتجعات شرم الشيخ وعن سيناء الجديدة, عن رائحة لبنان وسعير ليبيا واعتلال العراق، وعن تمسك إيران بدور العدو واستكبارها على دور الصديق, عن محاولات التسليك لأمريكا في دورها المزدوج كعدو ودود وصديق لدود.. فكلما وضعت يدي على لوحة المفاتيح فتحت الشاشة على صورة مئة ألف إلان.. أطفال من عين العرب، أطفال من قلب العرب, أطفال من ماضي العرب ومن حاضر العرب ومن فخر العرب ومن فشل العرب ومن حزن العرب ومن قلة حيلة العرب ومن بحر العرب ومن مضائقه. مئات الآلاف من إلان.. أطفال فضحوا بأجسادهم الطرية المنشورة على حبال الموت عبر العالم عروش الخراب التي يتربع عليها حكام انتهت صلاحيتهم الإنسانية، وليس فقط صلاحيتهم السياسية والرئاسية.
إلان ليس إلا رمزاً لملايين الأطفال العرب الذين أكلت الحروب لحمهم حياً على الشاشات والشواطئ والمقابر الجماعية وعلى رؤوس الأشهاد.
* * *
حيرتي لا تكف عن التنكيل بي
غير أن حيرتي فيما سأكتب لا تكف عن التنكيل بي موضوعاً تلو الآخر. وعند هذه النقطة نكأتُ جرحاً وجودياً، فتحه في خاصرتي قبل ما يزيد على عشرين عاماً مشهد عن شريط من حياتي، تتعرض فيه طفلة، تنتمي إلى أسرة تتكون من عشرة أفراد، لحادث يؤدي إلى إصابتها إصابة بليغة؛ فيتغير المصير العائلي والشخصي لكل من في الأسرة من جراء ذلك الحادث. بما يبدو معه وكأن كل أعضاء الأسرة تعرضوا لنفس القدر؛ فقد أصيب كل فرد من أفرادها وإن بدرجات نسبية متفاوتة بنفس الارتطام المريع، رغم أنه في الحقيقة لم يجرِ قلم الحادث فعلياً إلا على الطفلة. هذا ليس سرداً تجريدياً مثلما يرمز العرق للجهد، أو ترمز ريشة منفلتة إلى مرور طائر بالفضاء، أو وجود صب بالجوار، ولكنه شيء يشبه تلمس الصم للصوت بحركة الشفاه، أو ملامسة الكفيف لماء عبر التماعات السراب.
* * *
قلق شخصي يخصنا جميعاً
وطني بين حربين: حرب على المليشيات الحوثية، وحرب على داعش. ومواجهة غامضة مع الانخفاض الشرس لأسعار النفط (المصدر الرئيسي للقمة عيش المواطن والتزامات الدولة المالية والأدبية الجسيمة في الداخل والخارج). وحرب مستدامة، تتشابك خطافاتها مع النسيج الاجتماعي والبطانات السياسية ووجهها في التصدي للإرهاب والتطرف والتمذهب والتعنصر بأنواعه. وطن عربي تنهشه القوى الإقليمية والدولية بيده وبأيديها، وبالقفازات الاستخبارية والمرتزقة القذرة.. انحلال سريع لمنظومة الفكر والقيم والوجدان التي فتحت عيونها عليها أجيال عدة من الأجيال التي وُلدت في الخمسينيات إلى لحظة الربيع العربي.
* * *
ليس ختاماً
كم كان يلزمنا من الخيبات للتخلي النهائي عن الأحلام، والتبرؤ من الرومانسية، والقطيعة مع الخيال، ولخلع الجلود، وفقء الضمائر، وقص الضفائر، والتحول من اليسار واليسار الراديكالي إلى أقصى اليمين في اتجاهاتهما المتعددة، والعبور الأعمى من رعونة الصبا إلى جمود العجائز؟.. لا أدري كيف تخيلنا أن شرارة الربيع العربي وحدها تستطيع أن تضيء بحوراً ودهوراً من الظلام وعشق التخبط فيه واستعذاب الشكوى منه؟ كيف كان كتّاب الرثاء وكتّاب المديح سيعيشون لو تغير الوضع لسوى الأسوأ قيد أنملة.
* * *
المجد للشهداء والوداع للسلاح*
تخنقني العبرات لفرط شجاعتهم ولفرط آلامنا البكماء على تلك المجزرة المرعبة التي حصدت ما يقدر باثنين وتسعين شهيداً من جنود التحالف على الجبهة الجنوبية. كما أشعر بعودة نفس آلام العلاج الكيماوي المبرحة كلما مرّ رعب الحرب بجسد طفل أو راشد في القريب وفي البعيد في حمى الوطن أو في أبعد جوار. فليس بين المدنيين العزل في الحروب من هم أعداء أو أصدقاء بل ضحايا الصراعات أيًّا كانت عادلة أو غاشمة، وإن كانت المصيبة في الأخيرة أعظم.
* مستعارة من عنوان روائي لإرنست همنحواي (وداعاً أيها السلاح)