د.فوزية أبو خالد
السؤال الأول:
تنبش فداحة تلاحق الأحداث الوحشية من أعماق ذاكرتي البعيدة، حديث حميم مجروح يبدو أنني التقطه في طفولتي المبكرة من جدتي لأبي سارة حسينانة وجدتي لأمي عائشة عسملية، في أحد لقاءاتهما السنوية بمدينة الطائف أي في تلك المنطقة شبه المحايدة ..
.. بين ليونة الحجاز المكي وبين الخشونة الصحراوية لنجد. لقد شدّت نياط قلبي الصغير لواعجهما المتبادلة، على ما بينهما من اختلافات في الشكل وفي التفكير ونكهة الكلام, عن تجارب موجعة لطفولة كل منهما المشحونة بالحروب وبالجوع والشظف وبوساوس وأشباح غامضة ومواسم قحط وأوبئة وموت جماعي؛ لدرجة أن إحداهما تقول: «قطعوا أسفل أذني وأنا بنت صغيرة لنزع قرطي»، وردت الأخرى «أشوى» إنه ما عليك «معاضد» وإلا خلخال لقطعوا يدك أو رجلك. والله يا «دقنا المر من شدة الجوع ومن كثرة الجهل ومن قل الأمان». بما خلتُ معه تلك الذكريات الموحشة لطفولة جداتي، في طفولتي الرغدة التي لا أنشغل فيها إلا بكتب المكتبة الخضراء وبرامج الأطفال، قصة من حكايات الجدات. غير أن المفاجاءة أن اكتشف فيما بعد بعيد أنهما لم تكونا تعيدان سيرة شهرزاد بل تبوحان سر مرحلة حقيقة عاشتها كل منهما كمعاناة مركبة بمكونيها الذاتي والجمعي في التحولات للكبرى للمجتمعات في كل من منطقة الحجاز ونجد.
وقد أرقتني معرفة ذلك بما كشفته عما نعانيه من قصور في كتابة التاريخ الاجتماعي لحياة المجتمع السعودي في إيقاعها اليومي لمعاش الناس بمختلف مواقعهم الاجتماعية على الرغم من الحرص على تدريس التاريخ الرسمي في جميع مراحل التعليم النظامي العام. وقد تجسدت تلك المفارقة في سياق مقال اليوم بأنني لم أعرف أن قصة الجدتين على طريقة قصة مدينتين حقيقة تاريخية واقعة وليست ضرباً من ضروب الخيال، إلاحين أستنتجت من قراءاتي لكتب أجنبية بالمرحلة الجامعية بأن السيدتان سارة وعائشة ربما كانتا تتحدثان -رحمهما الله- عن آلام طفولتهما في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة الموجعة لما سمي بعام الرحمة. وعام الرحمة, لمن لا يعرف من أجيال اليوم, كان عاماً قاسياً جاء كامتداد مفصلي قارس لمرحلة تحولات عميقة مر بها مجتمع الجزيرة العربية على المشارف الأولى أو باللأحرى الأولية لتأسيس العهد السعودي الثالث.
******
بينما تطل من أزمنة التحولات المريعة والمرتبكة لمطلع القرن الماضي في ظل الانتشار الاستعماري السريع وقتها في هشيم المنطقة العربية تلك اللقطة المعيشية المشار إليها من معاناة طفولة الجدات وكأنها تقاوم أن تكون كغيرها من سجلات تاريخنا الاجتماعي الشفوي مادة غفل في الذاكرة الفردية مهددة بالغروب الأبدي مع غروب أصحابها, تمر بأضلعي وبنوافذ عقلي كعجلات قطار عجلى تعلج جهازي العصبي مشاهد القتل والاقتتال عبر الشاشات واليوتيوب لشباب يجر لجر أوطانه لحتوف باسم تحولات لن تأخذنا إلا إلى تعميم الخراب إن لم نجد طريقة للمقاومة على مستوى فكري ثقافي وعلى مستوى معيشي سياسي واجتماعي معاً.
السؤال الثاني
بطبيعة الحال لا أستطيع أن أقول بمكانيكية آلية ما أشبه الليلة بالبارحة لا على مستوى المنطقة العربية على وجه العموم، ولا على مستوى الدولة الوطنية المتمثلة بالمملكة العربية السعودية على وجه التحديد. فالبارحة تفصلنا عنها عدة أجيال اليوم, وعشرات العقود وما لا يحصى من التغيرات والتبادلات في أنماط الإنتاج والمعيشة والتعليم والتطبب وفي تبدل وسائل التنقل ومصدر وكم الدخل الوطني تبدلاً تاماً، وفي دخول الانقلاب التكنولوجي بجميع استخداماته من أوسع أبوابه وإن كان كمستهلكين.. و... و...و... بما تغير تغيراً يكاد لشدة الاختلاف بين ماكان عليه الأمر وبين تحولاته يشكل ثورة. إلا أننا في خضم كل ما يبدو من تغيرات قد نفاجأ بأنه يصعب القول إن لم يتعذر الإشارة إلى تغيرات جذرية في أو نقلات نوعية على مستوى قيمي وسلوكي وفكري. فهذا الثلاثي بكثير من حمولته المرجعية القديمة التي ترجع للمراحل الرعوية -ماقبل الدولة ومراحل الجهل.. ماقبل التعليم ومراحل القبلية.. ما قبل توحيد البلاد ومراحل ما قبل التكنولوجيا- لايزال يحتكم في أحوال المواطنة والسياسة والاجتماع وفي أحوال الثقافة بما فيها الفكر والفقه إلى سطوة البارحة في تلك المرحلة السابقة لتأسيس الدولة وتوطين التعليم ودخول عصر التكنولوجيا وظهور مفهوم المواطنة و المجتمع المدني ومنظومة حقوق الإنسان وإن كان دولياً.
******
لقد كشف الإرهاب بنسخته القاعدية في الربع الأخير من القرن الماضي وفي العقد الأول من القرن الحالي وباستنساخه الداعشي بأطروحته ونشاطه القاتل المعادي لأسباب الحياة الوطنية السوية ولاستعمال العقل ولكل روح حية وحياة إنسانية بالمطلق, بأننا لم نتغير على ثلاثة مستويات رئيسة. وهي البنى، العلاقات الاجتماعية والسياسية, والفكر والأخير متمثلاً في الثقافي والسياسي وفي التعليم والفقه.. ذلك التغير الذي كان يمكن أن يقاوم تلك الاخترقات الموجعة لفئات من القوى الاجتماعية وخاصة الشباب وعقولهم أو لا يسمح أصلاً بتحولهم إلى حالة تدمير ميداني لوطنهم ومجتمعهم.
******
هناك تحليلات متعددة بعضها يركز على فحص هذا الابتلاء التطرفي الإجرامي من خلال نظام التعليم وبعضها من خلال أطر الإعلام بأوعيته القديمة والجديدة وبعضها يلوم البطالة وبعضها يلوم الاستراحات والتشدد أو التسيب الأسري ومنها من يوجه أصابع الاتهام إلى الفتاوي والدعوية المتعصبة وبعضها ينحي باللائمة على محاولات الهيمنة الغربية على المنطقة, وتتعدد الأسباب التي على أهميتها إلا أن القول بكل منها منفردة أو متضافرة لا أظنه كافياً لو لم ينظر إلى هذه الأسباب ويجري فحصها من خلال فحص طبيعة الإطار العام الذي يحكم كل من الدولة والمجتمع في استقلالهما النسبي وفي علاقتهما ببعضهما البعض. ففحص طبيعة الخطاب السياسي والاجتماعي وطبيعة العلاقات الرأسية والأفقية في شبكة التفاعلات الرسمية والأهلية ودرجة التقدم أو التأخر أو المراوحة في بناها وفي مساراتها ليس أمراً يمكن التساهل فيه إن كنا جادين في إصلاح الأصل والمسار الاجتماعي والثقافي الذي بدون إصلاحه ستستمر الخروقات وسيستمر رده إلى أسباب لم تكن لتكون لو أن طبيعة النظامين الاجتماعي والثقافي وخطابهما المعاش والمنطوق لا يسمح به.
السؤال الواقف في الحلق:
قد يبدو كلامي مرتبكاً أو موارباً او مسربلاً بالغموض ولكن التمكين من الكلام الواضح جزء من الحل كما أن عدم المصارحة بطبيعة الموقف عرض من أعراض المشكلة غير الجانبي. فبدون إصلاح للبنى الاجتماعية، وبدون الإصلاح لطبيعة العلاقات الاجتماعية في مسارها الأفقي والعامودي لن نستطيع مقاومة اختطاف الشباب عكس مصلحة أوطانهم.
أن يوتيوب «تكفى يا سعد» بما تجسد فيه من وحشية تخرج من الاحتكام لأي شرعة عاقلة نحو شرعة غاب بواح يشكل موقفا غاية في البشاعة والدناءة بما لا يمكن التعامل معه عن طريق الاكتفاء بمساءلة تأثير داعش الإلكتروني السحري ولا برده إلى بطالة أو فراغ أو أسرة وتعليم. فهو موقف يفرض سؤالاً وجودياً ووطنياً يقع في صلب الطبيعة السياسية والاجتماعية الناظمة للهوية والانتماء.
وبالمثل إن ما قيل عن ذلك «التمثيل» القبلي العجيب بحيث تكاد تنطبق مقولة توزيع الدم الوطني بين القاب القبائل في الخلايا الداعشية التي تم بفضل الله والأعين الوطنية الساهرة القبض عليها مؤخراً في كل من الرياض والدمام يشكل ضرورة لمساءلة نوع الوحدة الوطنية التي خلنا أنها تأسست بالتعاضد مع تأسيس الدولة والنظام السياسي أو على الأقل بالخروج على التعصب القبلي، وإن أبقت عليها كوحدة اجتماعية وسياسية, فإذا بها تحوله إلى تعصب مركب يجمع بين التعصب القبلي والتعصب الديني. ولهذا فإنه لا يمكن إنقاذ الوطن من تلك الانتماءات الضيقة المدمرة بما تقوم به من إعادة إنتاج لتلك الأطر التنظيمية المعادية للدولة والمجتمع بدون شجاعة السؤال وحزم المساءلة لمسؤولية بنى الاجتماعي والفكري لإصلاحها إصلاحاً جذرياً.