د.فوزية أبو خالد
كانت وسامته الصحراوية الآسرة بملامحه الدقيقة الحادة بطباعه المتكبرة الصلبة ولا زالت هي مقياسي لتمييز الفرسان.. كانت بشرته النحاسية المشربة بشمس النفود والدهناء، قسمات وجهه المجبولة من شمم الجبال ومن خضرة السدر، ابتسامته الغامضة المسكوبة من حذر الغزلان، أنفه الأقنى،
لون عيونه المشتق من نصف ليال صيفية حالكة هي مقياس الوسامة في نظري..
كانت قامته الفارعة، منكباه العريضان، جبهته العالية وصلعته الواسعة، أكفه المفتوحة، أصابعها القاسية هي ميزان كمال الأجسام في عيوني..
كان حزمه الحنون، صدقه الصرام، كلامه المتكبر القليل، بساطته الطفولية ونقاؤه البدوي هي مقاييس الفروسية في رأيي..
كان يشبه الصحراء ويشبه أضدادها كلها، فلم يستطع رجل على الأرض ان يثير دهشتي وينتزع إعجابي بجدارة من الأعماق كما كان يفعل..
كنت أحدس وإن لم يساررني أو يَبُح لي قط
- إنني عنده أغلى من الأجنحة على الطيور.
- أهم له من الضوء للعين.
- واقرب من الوتين إلى القلب.
كان لا يغمض جفنيه إلا إذا وسدني ساعده ولا يصحو إلا ليتصبح بشقاواتي وعنادي، يوصلني بيده إلى المدرسة الخامسة بحي الرويس صباحا وينتظرني في حر الظهيرة عند بوابة كانت تكتظ وقتها بانتظار الآباء وليس بالسائقين والخادمات إلا ما ندر من الأمهات والآباء، ممن لا يزال لديهم حس حر بمتعة تلويحة المدرسة من أبوي أطفال ما أسرع ما يكبرون..
لقد ظل يعصيني قلبي وتستنكف حواسي ان احب رجلاً كما أحببت محياه، روحه وتراب الأرض التي مشى عليها، ليس لأن كل فتاة بأبيها معجبة وحسب أو لأنني أعاني من عقدة الكترا أو أوديب، ولكن لأن ذلك الرجل دون سواه مع انه كان مطحوناً بالإحباطات كأي مواطن عربي ولد ما بعد سنة الرحمة إلا أنه كان حراً كمحارب، حالماً كمراهق، عاشقاً كشاعر جاب الشرق والغرب ولم يعلمني إلا حبها..
الحاء: حريملا
الميم: ملهم
النون: نور ونجد ونور
الجيم: الجزيرة العربية من مهجة المرجان في جيزان أو جدة إلى لمى اللؤلؤ بالمنطقة الشرقية
الواو: وطن أشم
الألف: قامة لا تنحني إلا لله
الياء: لأرض اليمامة
اللام: لا للمبيت على ضيم ولا لمن يستعير جوابه
عندما كنت صغيرة لم اكن أناديه بابا أو أبي، كنت أناديه عبد الله وكان يناديني يوه أو يمه وكأننا أصدقاء صغار يخترعون أسماء تناسبهم غير ما اختار لهم الكبار، وكنت احسبه في حياتي لولعه الدائم بالسفر طيفاً أو ضيفاً يحمل إلي الحلوى والألعاب والأفراح الصَّغيرة، ويشفع لي من حزم نور أمي وبطش جمالها وشبابها كلما تماديت وأمعنت شيطنة ودلالاً في حضوره البهي الذي نشب الضو على شرفه وتبهر القهوة بالهيل والزعفران وتفوح الفرش بدهن العود والعنبر..
كان يؤثر ان يكنى باسمي رغم ان عنده ما شاء الله ستة من إخوتي الذكور، كان يراجع لي دروس القرآن الكريم الذي يغيبه عن ظهر قلب منذ كان في العاشرة، كما كان يفخر بنفسه ويسخر منا..
كان يصطفيني وحدي ليصحبني في بعض أسفاره من ساعة ان خطوت الخامسة، كانت أسمائي عنده لا تحصى، كان يسميني سارة، اسم أول امرأة احب في حياته وواحدة بقيت ما حيي من احب النساء إلى روحه / جدتي رحمها الله، كان يسميني ليلى ولبنى وبثينة، خديجة وعائشة ومريم، السفيرة عزيزة وزبيدة وشهر زاد، كان يسميني العنود وطرفة وموضي ولطيفة أسماء عماتي من اقرب أخواته إلى نفسه..
كان يحتفظ في جيبه أينما ذهب بورقة مهترئة عليها بصمة كفي مغموسة بالزعفران ولم يبلغ عمري سبعة أيَّام، مما كان قد ابتكرته فطرة أمي البكر قبل ان يصبح تسجيل بصمات اكف أو أقدام حديثي الولادة تقليداً جديداً في مستشفيات الولادة..
كان يؤكد لي بأكثر من لغة وبدون كلام انه يشتاق إلي عندما أنام، فكنت أتعلق به بكل ما في قلب بشر من طاقة عشقية متيقنة مطمئنة ان ليس هناك ما يمكن ان يفرقنا، وفجأة بعد ان عاد بأخي مشاري من رياض الأطفال بحديقة الأطفال بجدة، وكان فارعاً وسيماً كعادته بكامل هندامه وعطره وبتمام عافيته وعنفوانه، طرق طارق الباب ورأيته يرد على الطارق بسماحة ورضا ويقرر عن طيب خاطر ان يدعنا جميعاً أمي المتموجة شباباً وفتنة، أخوتي وأخواتي وأنا الأحد عشر، ويذهب مع داعي الحق الذي دعاه بنفس راضية بالقدر، مؤمنة ان هذا هو مصير البشر، لم ينفع بكائي وصراخي وتفجعي وتفجع إخواني وأخواتي الصغار لم يؤد تشبثنا بمشلحه، بثوبه، بغترته، بعقاله بنعاله في ان يثنيه عن القرار المفاجئ ويجعله يعود..
سكتة قلبية Heart attack قالها الطبيب بمستشفى بخش الذي كان على بعد بضعة أمتار من مكتبه بالشرفية حيث ترجل الفارس، ولم يلحظ الطبيب الصاعقة التي صبها ببرودة أعصاب وروتين المهنة على قلوبنا الشابة والفتية والصَّغيرة، ولا أدري كيف واتت الشجاعة تلك المرأة الرمحية أن تصر في تلك اللحظة الرهيبة ألا أحد يغمض تلكما العينين الغاليتين ان كان ولابد سواها..
يا الله كأن ذلك حدث قبل مائة عام، ومع ذلك فلا أزال كلما احتضنت عبد الرحمن أو غسان أو عبد الله أسمع نفس دقات قلبه، ولكن ما الذي حدث فأثار الشجون واستجرح الجرح..
كنا قد انتقلنا من نجد لنعيش في الحجاز ولم أزل بعد في العاشرة، ولكني كنت اعرف أصدقاء طفولته وصباه في نجد واحداً واحداً من أحاديثه الحميمة الرومانسية الشجية عن رجال الصحراء الأشداء، وعندما انتقل أبي من دارنا بجدة إلى دار الحق باكراً وأودعنا جثمانه الثمين مقبرة حي الرويس، إِذْ لم تسعفنا الظروف لتنفيذ وصيته المضمرة لنقله إلى مقبرة العود بالرياض كما كان يود ابن الصحراء ان ينهي ولعه بالترحال على أرض أجداده في تلك الهضبة، لم أشعر رغم لوعتي المجنونة بأني وحيدة ويتيمة تماماً إِذْ كنت لا أراه في محمد وفيصل وحسن وأحمد وحسب بل كنت أراه في رجال الجزيرة الأحياء من جيله كلهم، ولكن في كل مرة كنت اسمع نعي صديق من أصدقاء ابي وان لم أقابله في حياتي ابكي بكاء مريراً على فقد واحد آخر من هؤلاء الأصدقاء، وكأني أودع أبي للتو أو كاني في كل مرة اسمع بموت أحد أصدقائه أو معارفه أعرف بموت والدي لأول مرة.
بكيت الشيخ حسن آل الشيخ مرتين مرة فقيدا للعلم وللقلم ومرة صديقاً صدوقا لأبى وأباً مواسياً ومعزياً في موت أبي، بكيت أسماء ربما لا يعرفوني ولا اعرفهم معرفة شخصية أهلهم وأبناؤهم وبناتهم، بكيت محمد أبو خالد، بن غيث وبن باعود وبن رشود وبن معمر وبن عروان وبن صالح، بكيت صالح المحمود، بن حسينان وبن سليمان وبن شلهوب وبن عيسى وبن ابراهيم وبن صالح والحسيني ومحمد بن قاسم والحميدي العسكر واحمد الشدي وعبد الله بن هران وعبد الله العسكر وغيرهم. رحمهم الله جميعا وطيب ثراهم وأكرم مثواهم.
وبالأمس أرسلت لي ابنة عمي عبد العزيز - أطال الله في عمره - د. سارة العسكر بالواتساب صفحة من كتاب الرياض مدينة وسكانا كيف كانت وكيف عاشوا من تأليف أحمد مساعد الوشمي، فأثارت شجوني وطفقت ابحث عن هذه الكتابة المبرحة التي كتبتها في يوم أخاله أمس عن أبي وصحبه. ووجدت نفسي لا استطيع كفكفة دموعي. ولعلني لم أكن ابكي أبي وحده ولكني كنت أسطر بالدمع ما سطره القشعمي بالحبر سيرة مرحلة تاريخية كاملة يمثلها الكفاح اليومي البسيط والعادي لآبائنا وأمهاتنا ممن سبقونا لدار الحق. وهي مرحلة تتلاشى لحظيا من حياتنا بذهاب ذلك الجيل المكافح على أرض الجزيرة العربية كلها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، برجالها الأشداء ونسائها الشم بنبلهم وصبرهم. غير أن تلك المرحلة تبقى كغيرها من صفحات التاريخ الاجتماعي الشعبي أمانة في أعناقنا جميعا جيلا بعد جيل ليس لاجترارها وإنما لتجاوزها بإنجازات مستقبلية جديدة تليق بما ما قدموه من تضحيات في ظروف صعبة. وإن كان أجمل ما نقدمه لهم بجانب الدعاء أن نعيش تحدياتنا بمسؤولية وعنفوان يليق بأن نكون خلفا جديدا في عمارة مجددة للأرض.
(*) قد يكون العنوان مضللا للقارئ وغير منصف لأبي ولكنه محض اجتهاد وليس كل مجتهد مصيب، ثم إني أحب أن أكيد لغروري من حين لآخر بأن أسمح لنفسي ببعض الطيش وبعض الأخطاء.