هاني سالم مسهور
فيما تخوض سوريا واليمن وليبيا الحروب الأهلية، وتعيش بلدان العراق ولبنان ومصر اضطراباً سياسياً، خرجت تونس من أزمتها وحيدة بانتصار ثمين كفل لها الاستقرار والأمن، لتبدو التجربة التونسية أنموذجاً رائعاً ونوراً بهيجاً يستحق الإشادة به، بل والأخذ منه استلهاماً ونبراساً لدول تتعثّر في مسيرتها وأحوالها نتيجة الصراعات السياسية التي تفتك بها، هذا الأنموذج في تونس لم يكن ليأتي لولا مساحة من الحكمة التي نجحت في التقاط الفرصة المواتية، وتحقيق ما عجزت عنه دول أخرى تعرّضت لهزات جعلتها تترنح وبعضها سقط في الفوضى الخلاقة.
الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، هذه هي المنظمات الأربع التي منحت جائزة «نوبل» للسلام للعام 2015م، المنظمات هي مؤسسات مجتمع مدني في دلالة كاملة على أهمية دور هذه المؤسسات التي لا تجد في الوطن العربي الرعاية الحقيقية من جانب الدول العربية، ولا تجد الحرية المطلوبة لتمارس نشاطاتها في مجتمعها، على رغم أنها قادرة على إحداث الفوارق على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والتنموية والتعليمية، وفي تونس أثبتت قدرتها على إحداث الفارق على الصعيد السياسي.
في تونس بدأ مسار الحل السياسي عبر الحوار الوطني الذي انطلق في أكتوبر 2013م وانتهى بوضع الإطار الكامل للخارطة السياسية التونسية في يناير 2014م، بالتوصل إلى الاتفاق على الدستور، ثم تشكيل الحكومة المستقلة، لتضع تونس قدمها في طريق الاستقرار السياسي من تاريخ 29 يناير 2014م، لتنجز «الرباعية التونسية» مهمتها الصعبة بنجاح كبير، لعب فيه حسين العباسي أمين عام الاتحاد التونسي للشغل دور العرّاب للحوار الوطني، وهو المفكر العربي الذي أتاحت له تونس فرصة تسخير أفكاره في توقيت حرج، غير أنه نجح باقتدار مع بقية الأطراف في تحقيق المعادلة التي انتهت بالتوافق السياسي بين مختلف الأطراف.
التحول الديمقراطي في التجربة التونسية جنّبها خوض مصير عدد من دول ما يسمى (الربيع العربي)، حيث غرقت في الفوضى الدامية وتحولت إلى دول فاشلة، ووصلت فيها المليشيات المسلحة لتلعب أدوار خطيرة وصلت إلى انتهاكات صارخة بكل القيم والمبادئ الأساسية لحفظ حقوق الإنسان، وما مليشيات داعش في العراق وسوريا والحوثيون في اليمن، سوى أشكال مرعبة انتهزت الفراغ السياسي لترتكب الفظائع في حق الشعوب المغلوبة على أمرها.
النضج السياسي والالتزام بالضوابط لدى الأطراف السياسية التونسية، وكذلك الجيش الذي التزم حياداً تاماً من كل الأطراف السياسية، كانت عوامل رئيسية في الوصول إلى التحول الديمقراطي، فالثقافة الديمقراطية هي التي سمحت بإجراء الحوار الوطني برغم الخلافات والانتماءات العقائدية وغيرها، وكذلك التباينات المذهبية الحاضرة، إلا أن تجنب عقلية الانتقام في تونس كان معززاً لحالة النضوج الفكرية سياسياً.
عامل أيضاً لا يجب أن نتجاهله في تجربة تونس، تتمثل في التدخلات الخارجية، فالنماذج العربية الأكثر فشلاً وهي اليمن والعراق وسوريا، كان للتدخل الإيراني فيها تأثير مباشر، وكان ولازال عاملاً رئيسياً في الفشل وفي تكريس الصراعات الأثنية، ويكفي إشارة إلى اعتبار إيران أن العراق هو جزء لا يتجزأ من منظومته الأمنية، نجاح التوانسة في هذا الجانب كان فريداً بقدرتهم على لجم تكرار التجارب بمنع التدخلات المؤثرة سلبياً في الحوار الوطني، مما جعل هنالك فرصة مواتية للتوافق الوطني بين الأطراف المختلفة.
لابد من الاستفادة من التجربة التونسية عبر التشجيع على تصديرها للدول العربية المضطربة، هذا هو النموذج الصحيح الذي يجب أن تستلهمه النخب الفكرية والإعلامية وغيرها في الوطن العربي، دراسة الحالة التونسية والتعلُّم منها كنبراس يقود للاستقرار والأمن والعدالة الوطنية السياسية، هي استلهام مطلوب بجدية كاملة بدلاً من استيراد الفشل الذي صدرته إيران للعالم العربي، فزرعت فيه الصراعات المذهبية والنزاعات السياسية، كما أن مؤسسات المجتمع المدني عليها هي الأخرى أن تستفيد من التجربة الناجحة لدى المؤسسات والمنظمات المدنية في تونس، فالعالم العربي المشحون بالكثير من المآسي يمتلك اليوم فرصة أخرى عبر المؤسسات الوطنية لتعلب دورها الكامل بمسؤولية تجاه الشعوب العربية، والتي تتوق للحصول على فرصة حقيقية للعيش الكريم عبر إشاعة التعليم.. فمن العِلم تبدأ الحياة وتنتشر رائحة الياسمين.