د. محمد البشر
ألَمٌ لا يبرح، وحزنٌ لا يسرح، وأمور جسام، ومآسٍ عظام، ونوائب دهر قطنت، وحلت وما رحلت، ويبدو أنها مقيمة ما قام عسيب، وراغبة حيث لا حسيب. بحور أحزان وسواغب ذات أفنان، وأطفال مشردون، ونساء موتورون، في كل يوم عشرات القتلى، ومئات الجرحى، من نساء وأطفال وشيوخ وشباب.
بيوت هدمت، ونار أضرمت، وبراميل بارود أسقطت، فمات الصغير والكبير، والغني والفقير، والمؤمل والبائس، والمستقر واليائس، فلم يبق بيت دون خراب، ولا عائلة دون مصاب، فيا له من آلام أمة، حلت بها هذه الداهية، النائبة، الجاثية.
استسغنا قتل أمننا، واستساغ العالم طعم ذلك القتل، فلم تعد هذه الأمة ترى القتل والدمار إلا جزءاً من الحياة اليومية، وكأن ذلك جزء من تاريخنا، أو ثمرة من ثمرات ثقافتنا، لكنها والله غير ذلك، إلا أن انحرافاً في مفهوم قيمنا قد حلَّ، وظلام استطاع اختراق النور فانسل.
محزن حقاً ما حلَّ ببعض البلاد من أمتنا، والأكثر حزناً أنه لا يلوح في الأفق أمر لحل مشكلة من المشكلات، في تلك البلاد التي تسود بها الاضطرابات، وتعيش في بؤر النائبات، ما عدا بلد لديه بصيص أمل، وربما التوازن القائم بين القوى المتحاربة، يجعل الحرب تطول، لأنه لا غالب ولا مغلوب، ولا سيد ولا مسود، فأصبح في كل بلاد ألف سيد، يجمع حوله ثلة من المنتفعين، ويعلن أنه صاحب الحق الأبلج، والصبح إذا أولج، فهو رأس الخير وأسه، ومنارته وعرفه، ليس له مثيل، وفي السياسة ليس له قبيل، وكأنما ينطبق عليه قول أبو جعفر ابن البني:
أهل الرياء ليستبيحوا ناموسكم
كالذئب أدلج في الظلام العاتم
هذا الأمر في السياسة يكاد يكون مألوفاً، لكن ما لم يكن جديراً بالإتيان، هو استخدام الدين للدنيا، بينما الإسلام للدين والدنيا معاً، وهو في القلب والعقل والممارسة والوجدان، ولم يكن قط للاستخدام في مجال السياسة وبلوغ المرام.
لقد ابُتليت هذه الأمة في هذا العصر بالأطياف من المناهج العجيبة والغريبة، ولن أضيف شيئاً جديداً في هذا المضمار، الذي أُشبع بحثاً، ونقداً، وإنما ما يمكن إضافته القول بطرح سؤال واحد: إلى متى؟ إذا كان العالم أجمع يعرف بضلال تلك المناهج، وليس منهجاً بعينه، وظلامية تلك المبادئ، وجهل أصحابها بأصول الإسلام، ومفهومه، ومراميه، ومضمونه، أو إدراكهم لذلك، لكن الضلال قد خيم على العقول، وأبيح غير المباح لنيل المأمول.
إلى متى والقتل باسم الإسلام قائم، ومستمر ودائم، إلا عقول في تلك البلاد، تميل بالقوة إلى جانب الحق، وتتنازل عن المطامع لأجل الذين هجروا، وأبناء الذين قُتلوا وشُرِّدوا، والثكالى من النساء، والميتمين من الأطفال.
ألا يوجد في تلك البلاد من أولئك المتناحرين، من يعود بضميره إلى الحق، ويخاف الله في نفسه، وفي غيره، فلا يجعل بلاده غنيمة يتسابق مع أضداده عليها.
كم هو محزن أن يتسابق أبناء البلد الواحد على غنيمة مفترضة، تسابق الأسود على الفريسة، لا بل نقول الثعالب وأيم الله.
لا أحد من أولئك المتنافسين في ميدان الغنيمة، يلتفت إلى جيرانه، وأهله وأقرانه، وأحبابه وخلانه، الجار هو فلان بن فلان الذي يعرفه منذ مدة، لكن زمن المطامع جعل الجار يقتل جاره، والصديق يقتل صديقه، وكأنهم لم يكونوا أبناء بلد واحد من قبل، وربما يكونوا من بعد.
لم يعد العاقل يصدق أن الطمع عند الأفراد، يؤدي بهم إلى عدم المبالاة، بقتل أهلهم وذويهم وأبناء بلدهم، إنه أمر محزن حقاً، فمتى يعود الباغي إلى رشده، ويتنازل عن كبريائه.
اللهم أدم على بلادنا الأمن والأمان، واحفظنا جميعاً من كل مكروه، واصلح أحوال بلاد أمتنا التي حلت بها تلك المصائب، وادم السلام والأمان.