د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
ندرس في مدارسنا مآثر حضارتنا وانتصاراتها، ومنها قصص تمجد بطولات وملاحم سطرها أسلافنا وغيروا ببعضها وجه التاريخ كمعركة ذات الصواري التي غزونا فيها نحن بدو الصحراء الروم وهزمناهم في مجال يتفآخرون به وهو تسيدهم للبحار، فاحتللنا إثرها معظم جزرهم وقواعدهم البحرية كصقلية وسردينيا وغيرهما.
... بعد أن جهزنا بعبقرية لا تقارن أسطولاً من سفن ذات صواري في مدة وجيزة وتفوقنا بها على أهل البحار في تقنيتهم وفنهم. وتكمل هذه الملحمة ملاحم أخرى كملحمة عمورية التي وصلت فيها صرخة امرأة واحدة للخليفة المعتصم «وا معتصماه» فسير جيشاً جراراً ليعيد لها كرامتها ويذل من أذلوها، فبقيت كرامة العربي المسلم خطاً أحمر لا يُمس. وما هذه الملاحم إلا غيض من فيض مما تمتلئ به كتب المطالعة والأدب التي تعلمناها - ونحن أكثر من يتغنى بأمور الشرف، والكرامة، والشجاعة، والنخوة، والضيافة، والإثرة حتى أننا عندما نصور الآخرين ونقارنهم بأنفسنا نصورهم وكأنما هم يفتقدون لهذه السجايا من شدة نفينا للمقارنة. فنحن ملأنا البر حتى ضاق عنا وظهر البحر نملؤه سفينا، كما رددنا مع ابن كلثوم. دوماً ما تطلعنا حولنا لزعمائنا مؤمنين بأنهم هم الخلف لخير سلف وأنهم أحفاد أولئك الذين تذكرهم كتب تاريخنا المجيد، وأن كل ما يحتاجونه فرص مشابهة ليعيدوا لنا مجدنا ماثلاً أمامنا. فعزتنا وكرامتنا نحسبها قدر إلهي مقدس لنا.
لكن التاريخ لا يرحم ولا يتسامح مع من يغفو أو يتخاذل كما عشنا عقوداً يحكمنا غيرنا حكماً ظاهره خلافة إسلامية وباطنه سياسة عرقية. وتلاها عقود ننتظر فيها زوال عدوتنا الكبرى التي أُنشئت من العدم في أجمل وأخصب بقاع أرضنا بل وعلى واجهتنا البحرية التي انطلقت منها ذات الصواري ذاتها، ومنها انطلق غزونا لعمورية، وطرد صلاح الدين الغزاة الصليبين. زوال إسرائيل كان مسألة وقت فقط حتى يتفرغ لها زعماؤنا الذين عقدوا مؤتمرات قمة متتابعة كلها «لاآت» في العلن وتنازلات في الخفاء، قمم تبحث دائماً في مواجهة العدو الإسرائيلي، أما غيره من قضايانا المتعلقة بجماهير الشعوب العربية المهمشة كنا نسميها مجازاً «القضايا ذات الاهتمام المشترك»، فالمواطن كان دائماً هماً واهتماماً للنظام. كنا نعتقد أن قممنا تنتظر إسرائيل لتكبر وتسمن كالطريدة لتنقض عليها. آمنا بذلك حتى بعد هزائمنا المتتابعة التي انتقلت قياداتنا إثرها من مرحلة حرب الانقضاض إلى حرب منع التوسع، ومنها إلى حرب الاستنزاف، ومنها إلى حرب «ذات الاجتماعات»: مدريد، أوسلوا، كام ديفيد، وأخيراً إلى حرب البيانات والاتهامات. كل ذلك ونحن مستمرون في تكديس رجيع أسلحة الدول شرقها وغربها، ولم نصنع استعداداً لمعركتنا المصيرية ولو «ذات ماسورة واحدة»، بل إن هيئة التصنيع العربية لهفت كغيرها في قت وجيز قياسي.
ملت الشعوب من الفقر والتجويع والفساد باسم معركة تحرير القدس والمقاومة ومن العبارات الخطابية المستهلكة، لتدرك أن البر ضاق عن فسادنا والبحر امتلأ بنفايات أعدائنا، ثم أدرك أن تكديس السلاح هو لفرض الواقع عليه وليس لإزالة الواقع الإسرائيلي. وأعاد التاريخ نفسه مرة أخرى تقريباً من الصفر هذه المرة ليس من جانبه البطولي بل من جانبه اللطمي والطائفي والخارجي، فوجد فيه من يدعون أنهم أحفاد صلاح الدين ضالتهم الجديدة، فكذبة ممانعة إسرائيل استُهلكت ولم تعد الأجيال تصدقها فتبنوا كذبة أخرى وهي أن هناك ثارات تاريخية لم يكتمل الأخذ بها، وأنه لا يمكن البدء في القضاء على العدو الغازي قبل القضاء على الجار الشقيق المستأمن كاقتصاص تاريخي منه. فاكتشفنا فجأة مرقد زينب، وقبر العباس، ومقبرة وسرداب الولي الفقيه ونسينا حروبنا مع غير المسلمين بما فيها الحروب الصليبية لنتفرغ للانتقام الكبير في معركتنا الكبرى معركة «ذات السراديب». وبدلاً من إعلان الجهاد على الدول الكافرة أعلنا الجهاد على بعضنا بعضاً، وبدأت المؤامرات والمؤامرات المضادة تشل كل فكر سياسي وعسكري لدينا، وخرج علينا من يقول إنه من أجل قتال إسرائيل لا بد من إعدام نصف الشعب العربي وإخضاع النصف الثاني للقومية الفارسية.
فقدنا دولتين عربيتين وحولهما أعداؤنا قواعداً للقضاء على البقية الباقية فينا. وظهر لنا قادة وخلفاء جدد بعدد حكاياتنا التاريخية. ولم ننتظر كثيراً حتى خرج علينا من يدعي أن الله فوضه ليشغر موقتاً وظيفة المهدي المنتظر، ثم ظهر لنا خليفة هنا يعتقد أنه صحابي بُعث بأثر رجعي، وخليفة آخر يتصرف وكأنه عيسى عليه أفضل الصلاة والسلام. بل إن خاتم النبي عليه أفضل والسلام لم يسلم من التشويه فاتُخذ شعاراً للقتل والسبي والسحل والاغتصاب، فثبت شرعاً أننا كنا نعيش أسوأ مراحل تاريخنا، وأننا في طريقنا لمحو كل شيء جميل في ماضينا وتاريخنا، حتى الآثار التي بقيت شاخصة لقرون لتدل على الأقل على قدرتنا على التشييد تمت تسويتها بالأرض بذات الأسلحة التي اشتريناها لنحرر القدس. وبدلاً من أن نذهب للروم لنهزمهم على ذات صواري هزمناهم «بذات الغوارق»، فغزوناهم غزواً لا قبل لهم بأطفالنا ونسائنا لأنهم إن صدوهم ماتوا غرقاً، فأخي جاوز الظالمون المدى، فأما اللجوء وأما الردى.
جثث أطفالنا، الذين قذفت بهم وحشيتنا في البحار خرت لها قلوب الأمم الأخرى راكعة، قلوب أمم نتهمها في أخلاقها ونخوتها، وأكثر منها أكلته الحيتان في عمق البحار. أمر يخجل منه تاريخ أوضع الأمم فما بالكم بتاريخ بطولي ملحمي صنعه أسلافنا فقوضناه. فهذه الجثث للأطفال والنساء على الشواطئ تصرخ «واعرباه»، «وا إسلاماه»، و»افضيحتاه»، وهي لا تطلب تسيير الجحافل لإنقاذها بل تطلب فقط احترام إنسانيتها وعدم اضطرارها لاختيار الموت أو المجهول على البقاء في أوطانها. لكن الجبال على ما يبدو فقدت صداها وآذاننا أصمها الفساد وأغلقتها الخيانة.
نتسوح في أوربا ونعجب من أمر الغجر ونحمد الله على إسلامنا وعروبتنا، ولكننا نتساءل لِمَ هم غجر؟ ما الذي حولهم إلى غجر؟ لماذا هم منبوذون لا قيمة لهم ولا كرامة، بل إننا إذا أردنا أن نشتم أحداً وصفناه بالغجري. اليوم فقط عرفنا السبب لِمَ هم غجر، فهم كانوا شعبًا قوياً له تاريخ وملاحم وقصص كسائر الشعوب، لكن الله سلط عليهم أوباش كالقذافي وبشار والبغدادي والمالكي وغيرهم سلبوهم كرامتهم وإرادتهم بكل بطولة واقتدار وأحالوهم غجراً يتسكعون على الطرقات يسلون الناس بأغانيهم ورقصاتهم، ويمتهنون للعيش السرقة والنصب. وقد لجأ إلى أروبا حتى اليوم 800 ألف عربي مشرد في لجوء ليس ككل لجوء بل لجوء تاريخي في الشكل والمضمون، لجوء انتحاري شعاره البحر أمامنا وخلفاء المسلمين الجدد من ورائنا، لجوء اقتحم سياجات الغرب ودفعاته لا بقوته ولا سفنه بل بمناظره المأساوية غير المسبوقة بأطفالنا يتساقطون على شواطئهم كالسمك النافق بلا ذنب ولا جريرة. كنا نرد الدار قبل العار، وأن من ترك داره قل مقداره، واليوم عكسنا كل مقولاتنا ولم نعد نكترث للعار لأننا أصبحنا مضرب المثل به. فما عسى يروي التاريخ عنا، وما هي الأوصاف التاريخية التي سنطلقها على حقبتنا هذه؟ وكيف سيدرس أحفادنا هذا التاريخ؟ هل سيستمرون في تعلمهم معركة «ذات الصواري» أم أن هناك من سيستمر يعيرهم بموقعة «ذات الغوارق». وهل سيذكر مهاجرونا الذين ملأنا بهم بحور أوربا تاريخهم أم يفضلون أن يكونوا غجر المستقبل، شعب بلا أرض ولا تاريخ لأن تاريخهم الذي طبع في ذاكرتهم لا يشرفهم. والأدهى والأمر أن يخرج من بيننا من يتهم الغرب بالتآمر علينا لقبول اللاجئين لأنهم يريدون تسجيل نصر أخلاقي علينا، والرد هو بالقول أهزموا الغرب وأكرموا شعوبكم وأحموهم حتى لا يهاجروا بهذا الشكل الانتحاري المفجع، فقد أصبحنا ملطشة لفضائيات العالم، فهل بقي لنا مجد أو أخلاق لينازعنا الغرب فيها؟