د.فوزية أبو خالد
(1)
لا أدري إلى متى سيظل مجتمعنا السعودي ودولته مادة مثيرة للإعلام على الفضائيات وعبر الإنترنيت، وموضوعاً غامضاً محرضاً للفضول المعرفي الأكاديمي في الجامعات الخارجية، وللأسئلة والتخمينات بدوافعها السياسية أو الاستخبارية وسواهما لغير قليل من الجهات الدولية.
أتوقع أن ذلك قد يمتد إلى أن نصبح قادرين على أن نكتب بأيدينا عنا، فنقدم أنفسنا للعالم بموضوعية، وبدون غمغمات أو مبالغات تبريرية, فلا نترك للعالم أن يجري أخيلته الواسعة أو الضيقة في مجرى دمائنا.. وأتوقع أن ذلك قد يمتد أيضاً إلى أن يصبح لدينا شيء من الشفافية والكثير من الحرية التي تمُكّننا من نقد الذات الموضوعي، ومن عدم الحياء في الحق، مع الاعتراف أن عملية الإصلاح عملية مستدامة لا تتوقف إلا بموت الأمل الذي لا يموت عادة ما دامت الشعوب حية.
على أني، وإن وطّنت النفس على التماس بعض الأسباب لتلك الأسئلة التي تواجهنا فيما يخص بعض قضايانا المجتمعية والسياسية, إلا أنني لا أرى مبرراً لطرح الكثير منها بتلك الصيغ الاستفزازية، وكأنها تجعل من واقعنا تهمة علينا الدفاع عنها، وليست مجرد أوضاع إشكالية علينا نقدها وبإمكاننا معالجتها أو إصلاحها من جذورها إن اقتضى الأمر.
ومما أعاد لي مؤخراً هذا الشجن الذي كثيراً ما يعتريني كلما اعتليت منبراً دولياً للحديث بحكم التخصص والاهتمام في محاضرة أو مقابلة عن بلدي السعودية أو شأن من شؤونها السياسية أو الاجتماعية, هو نوع وصيغة تلك الأسئلة التي انهالت عليَّ من الصحافة الخارجية بشقيها المقروء والمشاهد حول الانتخابات البلدية بشكل عام ومشاركة المرأة السعودية فيها على وجه التحديد. لم يكن أولها ولا آخرها أسئلة فضائية البي بي سي الناطقة بالعربية، إلا أنه بما عُرف عن هذه القناة من موضوعية نسبية، ومن احترافية مهنية تشكّل مثالاً لذلك النوع من الاهتمام الفضولي والتساؤل الشكّي الذي يتم تداول الشأن المحلي الوطني من خلاله.
لقد جرى الاتفاق بيني وبين معد البرنامج، وهو صحفي مُحنّك أن الحديث سيتناول تجربة الانتخابات البلدية الماضية، ومستجدات خبرات التجربة ومعوقاتها القانونية واللوجستية بالنسبة للمرأة السعودية التي تخوض التجربة للمرة الأولى, إلا أن الأسئلة على الهواء خرجت على ذلك، فاتجهت إلى مسألة جدوى العملية الانتخابية, كما أخذت منحى ينحي باللائمة على النساء للمشاركة في مثل هذه التجربة, على الرغم من أنه للتو جرى الشروع في مثل هذه التجربة الانتخابية والتي مع علمنا بمحدوديتها، إلا أننا نتوسَّم منها اكتساب ثقافة وخبرة الانتخابات والعمل الديموقراطي، أياً كانت محدوديته في هذا اللحظة.
ولا أظن مقدم البرنامج تعمَّد الإخلال بنقاط النقاش, بقدر ما أن طبيعة النقاش القائم على تعدد المداخلات ونوع المسبقات الذهنية عن المجتمع السعودي، جعلت الحديث مثل لقاءات أخرى مشابهة أقرب إلى محاكمة محدودية التجربة والأوضاع السعودية وموقع المرأة فيها.
ما دفعني لكتابة هذه المقدمة لموضوع أردت الكتابة فيه عن الانتخابات البلدية وموجهات التجربة وتحدياتها، هو أن هذه المواجهة للصحافة الخارجية المرئية والمقروءة هي سواء رضينا أو امتعضنا أصبحت جزءاً من التجربة الانتخابية نفسها، ومن خبراتها التي علينا تعلُّمها واكتسابها.
(2)
فنحن مجتمع لم تتح لنا منذ تأسيس الدولة والمجتمع السعودي بصيغته المعاصرة القائمة أي نوع من التجربة الانتخابية، ولا حتى داخل المؤسسات التعليمية المفترض طليعيتها كالجامعات إلا اللمم, ولهذا فإن لدينا الكثير لنتعلّمه كتجربة ذهنية وكخبرة ميدانية عنها ومنها.. ولا أستطيع في هذا أن أوافق تلك الآراء مع احترامي لمنطلقاتها ممن ترى أن محدودية تجربة الانتخابات المتاحة واقتصارها على المجال البلدي تقتضي مقاطعتها أو التعالي عليها، ريثما تفتح الدولة باب العمل الانتخابي في المجال السياسي ومجالات العمل الوطني والاجتماعي الأهلي.. وأظن أن الذين يقولون بمثل هذا الرأي لا يعلمون على سبيل المثال تلك التجربة اليومية التي خاضتها النساء على مدى سنوات، ومنها مبادرة وحملة بلدي للحصول على حق الانتخاب والترشيح بالمجالس البلدية قبل وبعد صدور قرار الملك عبد الله - رحمه الله - بذلك وإلى هذه اللحظة.
وبالمثل، فإنني بالمقابل أرفض تلك الأصوات التي تقول بعدم جاهزية المجتمع أو عدم قدرة قواه الاجتماعية والشعبية على استيعاب وخوض أي تجربة ديموقراطية بما فيها الانتخابات البلدية على محدوديتها.. فالتساؤل عما قدمته الانتخابات البلدية للدورتين السابقتين على مشروعيته يجب أن يكون في إطار المحاسبة، لا في إطار التنفير أو التثبيط.
وبرأيي أيضاً أن تعثُّر التجربة الانتخابية للدورتين السابقتين وعدم التقدم قُدماً على طريق التحرك بها إلى آفاق أرحب تتطلب وقفة نقد ذاتي على عدة مستويات.. مستوى تقييمي نقدي لتجربة الانتخابات البلدية في دورتيها السابقتين لتصحيح وتعميق مجرى التجربة خصوصاً في ظل دخول العنصر النسائي الممثِّل لنصف المجتمع إليها.. المستوى الآخر والأصعب هو اتخاذ موقف نقد ذاتي لبنية، ولأداء الدولة وأداء المجتمع في مجال علاقتهما ببعضهما البعض، ومسألة مدى الجدية في التحول بهذا العلاقة من شكلها التقليدي الأحادي إلى شكل أكثر تفاعلاً وتعددية وندية ومشاركة ومسؤولية.
إننا اليوم نمر بواحدة من أشد اللحظات تحدياً في تاريخ المملكة العربية السعودية، بما تخوضه الدولة من حربين حساستين, فعلى الحدود الجنوبية هناك قيادتها للتحالف العربي الخليجي ومواجهة الجيش السعودي والقوى الحليفة للميليشيات الحوثية في اليمن, وهناك التزاماتها العسكرية والمالية مع التحالف الأمريكي والدولي في مواجهة داعش, بالإضافة إلى التحديات المتوقعة لانخفاض أسعار النفط المصدر الأساس لميزانية الدولة ودخل البلاد، مما يقتضي ألا نتخلى عن أي نافذة للمشاركة الوطنية, أنّى صغرت كالانتخابات البلدية مع عدم التوقف عن تطويرها والعمل على توسيعها والارتقاء بها.. وهذا يقتضي أن نمحو كل موجبات أُميتنا الديموقراطية، كما يقتضي أن نتعلّم ثقافة الانتخاب والترشيح على غير الأسس العنصرية الضيقة من المناطقية والقبلية أو المذهبية أو سواها من التعصبات أو محاولات الاستحواذ من أي جهة على مجريات التجربة.
(3)
وأختم بمناشدة وزارة الشؤون البلدية والقروية أن تقبل بشراكة المجتمع المدني معها في نشر ثقافة الانتخابات، ولا تجنح لتثريب مجهودها الجميل في إنجاح تجربة الانتخابات البلدية بإقصاء أي من القوى الوطنية التي تريد أن تعمل في العلن على المشاركة في إثراء هذا التجربة وتعلُّمها.. وفي هذا النداء أشير تحديداً لضرورة إقامة دورات تدريبية لتعلم هذا التجربة مما كان يقام علناً وبدعوات عامة في جمعيات خيرية نسوية بشراكات معروفة ومذكرات تفاهمية موثّقة مع المؤسسات الوطنية للتعاون على إنجاح تجربة الانتخابات البلدية. إن مصداقية التجربة الانتخابية اليوم تكمن ببساطة في تحوُّلها من مجرد تجربة للجدل إلى تجربة للعمل.. وهذا يتطلَّب تحويل التجربة إلى خبرة ميدانية عملية قبل وبعد التجربة وخلالها، بما يتضمن شراكات المجتمع المدني من التصدي العقلاني للخطابات المناوئة للتجربة، وتقديم بدائل إيجابية في النظر إليها، إلى رفع سقف صلاحيات العمل باستقلال المجالس عن الأمانة، وتوسيع دائرة الناخبين، وإعطاء مساحة لأداء تشريعي ورقابي يُعاضد التجربة إلى جانب التيسير اللوجستي الميداني لمشاركة النساء والتعزيز التشريعي والقانوني للعمل الديموقراطي.