د. حسن بن فهد الهويمل
وإذ تكون العظمةُ مظنَّةَ الاختلاف، فإن تميز الكيانات أدعى إلى مزيد من التحامل، والافتراء.
وعلى العظماء، والكيانات المتميزة ترويض النفس على حتميات التنقص.
في التاريخ الحضاري للإسلام، تبدو وقوعات منشؤها الغبطة، المتطورة إلى الحسد، ثم المواجهة بالقول، أو بالفعل.
ومن المأثور قول [ابن تيمية]:- [لايَخْلُو جَسَدٌ من حَسَدٍ] فما دام الحسد مكبوتاً، فهو غبطة. أما حين يترجم إلى قول، أو فعل، فإنه يكون حسداً.
فما جرى بين [آدم] و[إبليس] و[قابيل] و[هابيل] إرهاصات للحسد العملي الأزلي.
وتبقى الفائدة قائمة، لأن في ذلك دفعاً لكل الأطراف، لممارسة الدفاع عن الحوزات الفكرية، والمكتسباتِ السياسية.
على أن لكل شخصية متمردة على السائد نَصْيبَها من المتاعب. فـ[أبو العلاء المعري] مثلاً بوصفه أحد العظماء، اكتنفته سهام الخصوم، وتوارثت الأجيال الحق، والباطل الذي قيل عنه.
[المعري] بلا شك متمرد على السائد، ومستخف بالمتعالين كالدخان. ومنطلقات الحملة عليه تكمن في عُزْلتهِ، وَرَهْبنتهِ. حتى سمي [رهين المحبسين]. وفي فلتاتِ لسانه في [اللزوميات]، وفي الافتراءِ عليه بأن كتابه [الفصول، والغايات]، مضاهات للقرآن. وحين عُثر على مخطوطته، سقط الاتهام.
وماجاء من متشابه في [اللزوميات] كشف غموضه في كتابه [زجر النابح]، وهو الكتاب المفقود، الذي جمع مقتطفات منه [أمجد طرابلسي] حين عثر على تلك المقتطفات في هوامش إحدى مخطوطات [ اللزوميات ].
ولأن [المتنبي] رأسُ المتمردين، فقد وجد فيه [المعري] مُرَادهُ. ومن ثم شرح ديوانه تحت مسمى [معجز أحمد].
ولأن [طه حسين] هو الآخر متمرد على السائد، فقد اهتم بنظيره في العمى، والتمرد، وألف عنه ثلاثة كتب. وندب النجباء من طلابه، لمزيد من الدراسات الأكاديمية عنه، أمثال بنت الشاطئ [عائشة عبدالرحمن].
والثلاثة [أبو الطيب]، و[أبو العلاء]، و[طه حسين]، من العظماء، شئنا، أم أبينا، وإن اختلفنا معهم، وضقنا ذرعاً ببعض مايذهبون إليه.
لقد أضاف العدلُ، والجورُ الذي مورس حولهم إلى المشهد الأدبي، والفكري، والديني، معارف لم تكن مِنَ المتناول، لولا التناقض حول أدبهم، وفكرهم.
لقد استفادوا مما دار حولهم من جدل. بحيث فَرَضَ حضورهم، وقَرَّب تراثهم.
البعض من العلماء، والأدباء، والمفكرين يضيقون ذرعاً من التجني عليهم، وقد يسوؤهم مايقال عن مريديهم.
والحق أن مايقال من صدق، أو كذب، يثري المشاهد، ويُجَذِّر المعارف، ويُحَرِّر المسائل. وأخطر شيء على أي مشهد سيادة التسليم، والقبول.
لقد نيل من الصحابة، ومن العلماء، والمصلحين. وجاء تحامل المتعفِّنين من المتعصبين على خصومهم دافعاً للتصدي، والصمود [وربّ ضارة نافعة].
في الآونة الأخيرة انبرى بعض الموتورين للتصدي لـ[البخاري] و [سيبويه] و[الشافعي] ووصفهم بالجناة، الأمر الذي حمل المنصفين على تفنيد المفتريات، وإحقاق الحق. وفي ذلك إضافات معرفية، لولا تجني الجهلة، لما ظفرنا بمثلها.
والنزوع العقلاني المتطرف الذي استحضره من التراث [أحمد أمين] في [فجره]، و[ضحاه]، و[ظهره]، ثم تلقفه عقلانيو العصر من بعده، وأسرفوا في تقديس [العقل]، وتهميش [النص]، والنيل من رموز [الرواية]، والتعظيم لرموز [الدراية] حمل الوسطيين على استدعاء علماء، ومعارف، ومذاهب، لم نكن على علم بهم، وبها.
ولقد أدّى مثلُ هذا التحامل على الشخصيات، والنصوص، والكيانات إلى إعادة هؤلاء جميعاً إلى مشاهد الفكر، والأدب، والتنقيب عن شمائلهم، وتحرير الكثير من المسائل، والتأصيل للكثير من المعارف، والتقريب للكثير من العلماء، والمفكرين.
ولعلنا نذكر الحملة الجائرة على [أبي هريرة] واتهامه بالكذب، لمجرد أنه روى أكثر من [خمسة آلاف حديث ] عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ولولا هذه الحملة لظل في النفس شيء من كثرة مرويات هذا الصحابي الجليل.
لقد كنت على الرغم من امتعاضي، أجد في نفسي شيئاً من التساؤل عن كثرة المرويات.
ولكن جرأة [أبي رية] ومن شايعه، حفزت الخَيِّرين من العلماء أمثال [محمد عبده يماني] على تقصي ظاهرة الكثرة في الرواية، والْتماس مخرج [لأبي هريرة]. فكان أن توصل المحققون إلى نتائج مذهلة، وصادمة لخصومه من الشيعة، والعلمانيين.
بحيث وجدوا - باستخدام التقنية الحديثة - من يشاركه في الرواية، ومن ثم لم ينفرد [أبو هريرة] إلا بـ[ثلاثة عشر حديثاً] فقط، لم يشاركه أحد من الصحابة في روايتها.
أما ماسوى ذلك، فقد شاركه غيره من الصحابة، فيما جاء قِسْمٌ من الأحاديث من الموضوعات، أو المنسوبات أو الضعاف.
ويبقى [أبو هريرة] عظيماً، صادقاً، قوي الحفظ، ملازماً للرسول، لاتشغله دنيا، ولاتلهيه أطماع.
ولك أن تقول مثل ذلك عن سائر المصلحين الذين بشر بمجيئهم الرسول صلى الله عليه وسلم، على رأس كل مائة سنة، بحيث ينفون عن النص التشريعي مااعتراه من تحريف ضال، أو انتحال مبطل، أو تأويل جاهل.
من أمثال شيخ الإسلام [ابن تيمية] والمجدد [محمد بن عبدالوهاب] وسائر المجددين على مختلف الأزمنة والأمكنة.
والاثنان لم يأتيا بِمَذْهب مخالف، ولم يدعوا لطائفة معينة، وإنما قدما مشروعاً سلفياً، ينادي بالرجوع إلى الكتاب، وصحيح السنة.
لقد بلغ من التحامل عليهما أن كُفِّر من يقول: بأن [ابن تيمية] شيخ الإسلام. ولأنهما الأكثر تأثيراً، فقد صُعِّد الخلاف معهما.والقراءات التقويمية تتطلب أخذ العالم بأنساقه، وسياقاته، وبالظروف التي أنتجته.
لقد ظهر خطاب [ابن تيمية] في حالة الانكسار العربي، ووقوع الأمة بين [حملات الصليب] و[التتار]. وكيف يُنال منه. وهو حين شَفَعَ للأسرى، سَوَّى بين أهل الذمة، وأهل الملة.
هذه الأوضاع تتطلب من [ابن تيمية] التّهييج، والتّحريض، واستنهاض الهمم، ولغة الجهاد، والتصدي، والتحدي، والصمود.
فيما ظهر [ابن عبدالوهاب] في حالة الجهل، والتفكك، والخرافات، والشعوذة، وتلوث المعتقد.
وهذا الوضع يتطلب حفظ جناب التوحيد، والتركيز على العودة إلى النص التشريعي، والتحذير من المذهبية، والطائفية، وسائر الانتماءات.
الاثنان عظيمان في أثرهما، وإرثهما. ولولا هذه الحملات، لما حُرِّرت رؤيتهما، وتكرست شخصيتهما.
ولأن التاريخ لايكتبه إلا المنتصر، فقد سيئت دول، وشخصيات. ولما أصبح التراث في متناول الأيدي، انبرى من يصحح الأخطاء، وينفي عن التاريخ السياسي الإسلامي ماعلق به من مفتريات.
وكم من عظيم ظُلِم، ولاسيما عندما ظهرت [الشعوبية] و [الزندقة] وضعف الولاء الديني، وحل محله الولاء القبلي.
فكم من عالم، وفيلسوف اتهم بالزندقة، وهو منها براء. كـ[أبي حيان التوحيدي] و[المعري] مع ماهم عليه من تجاوزات، لا تبلغ بهم حد الزندقة.
وبقدر ما أوذي العظماء، أوذيت [ الكيانات]، و[الحركات الاصلاحية].
فما يقال عن [المملكة العربية السعودية] لايمكن القبول به، على الرغم من أنها دولة محورية، فاعلة، ومؤثرة،و شريكة في المتغيرات الدولية، لها، وعليها. ونحن لانريد التزكية المطلقة، ولكننا نريد المصداقية التي تتشكل منها المرايا.
وللمتابع أن يقول مثل ذلك عن [الحركة الإصلاحية] التي قام بها المجدد [محمد بن عبدالوهاب].
لقد وُصِفت بـ[الوهابية]، وأُلصق بها التكفير، والإرهاب، واعتبرها المناوئون مصدر كل شر. وماهي في النهاية إلا دعوة إلى الأخذ بالكتاب، وصحيح السنة، وما يحصل من مخالفات الأتباع، لا تتحمله المبادئ.
ولو قُرِئَت كتبُ المصلح بتجرد. وعُدِل عما كُتِبَ عنه، لتغيرت النظرة الجائرة، التي رَوَّجَها خصومه. ولقد تكونَ قسوةُ المواجهة مدعاة لقسوة الرَّد.
ونعود لنقول إن العظمة لاتكون إلا في ظل التناقض و:-
[لَوْلا اشْتِعالُ النَّارِ فِيما جَاوَرَتْ... مَاكَانَ يُعْرَفُ طِيْبَ عَرْفِ العوُدِ]
وكل شرفٍ رفيع لا يسلم من الإيذاء:-
[ حتى يُرَاق على جوانبه الدم ]
وكل دولةٍ عملاقة، تكشف عوار الآخر ، وتحمل المكسوح على الإيذاء و:-
[ حُبُّ الأذِيَّةِ من طباعِ العقرب ].