د. حسن بن فهد الهويمل
كما لم يتردد الرسول صلى الله عليه وسلم في اتخاذ الأسرى من المشركين معلمين لأبناء المهاجرين، والأنصار، لمفادات أنفسهم. فإنني - ومن باب الاقتداء - لم أتردد في التلمذة على من أجد عنده إضافة معرفية، وإن كانت به لوثة في الخلق، فلقد يصدقني، وهو كذوب.
وكم من مفكر ملحد، أو أديب متهتك، أو كاتب سياسي مغالط، أو عميل يبيع إمكانياته في سوق النخاسة، أجد نفسي مندفعة للاستزادة من معارفهم، أو تجاربهم، أو مايتميزون به من منهج، أو أداة.
أذكر أن أحد الأمراء، وأظنه سمو الأمير -مقرن بن عبدالعزيز- حين سئل: ماذا تفعل بعد قراءة الصحف؟.
قال:- أغسل يدي.
وهذا لإزالة الوضر الحسي، فكيف بالوضر المعنوي.
فمثلي حين يتلبس بالقراءة لمثل هذا الصنف، لايجد بداً من الانغماس في بحيرات المقروء النقي، لِتتحاتَّ الشوائب، وتزول الأدران.
[محمد حسنين هيكل] من هذا الصنف الملتاث، المُلَوَّث، على الرغم من أنه يشغل مساحة واسعة في المشهد السياسي، وكتبه تحتل أوسع المساحات في الحقل السياسي في مكتبتي.
قد لا أتحدث عما أنا عليه مع أمثاله، ولكنني مضطر إلى تحديد مفهومي عن هذا الصنف.
إنه إنسان غرائبي، يتخذه الطامعون التوسعيون، والمصدرون للثورة أجيراً، لترويض الرأي العام، ساعة تمرير العهر السياسي، مارس ذلك مع المغامرات الناصرية، وهو يمارس الدور نفسه مع المد الصفوي.
ولربما تبادر فئة من هذا الصنف المأجور بعض القضايا برؤية حُرَّة، ولكنها لا تمس [الزبائن].
و[هيكل] حين يمارس النخاسة، يستنجد بمعارفه، وتجاربه، وتمويهاته، وبهلوانياته، وحضوره الذي فرضته السلطات المنتفعة من قدراته.
وتحقيقاً للمصداقية المتجَاهَلة، فإنني لن أتعمد تجهيل مخالفي، أو التقليل من شأنه. فالمصداقية تعني العدل، وتحامي إنكار الإمكانيات، وعدم التوسل بالأحكام الجاهزة.
فأساطين السياسة، لايستعينون بالضعفاء. ولا يتخذون منهم العملاء. وكاتب بوزن [هيكل] وتاريخه الطويل في المشهد السياسي، شكَّل له شهرة، ورصيداً من القراء المسلَّمين له. ويقيني أنهم من جيل الزعيق الثوري الفارغ في ستينات القرن الميلادي المنصرم.
و[هيكل] الذي ناصب [المملكة] العداوة، والبغضاء منذ العهد [الناصري]، ظل كما هو، تتلقَّف إمكانياته الدولُ التي تتعارض مصالحها مع مصالح المملكة، وتستنزف قدراته، لتوهين عزمات [المملكة]، وتشتيت جهودها. وكم يكون السكوت عن مثل هذه الإثارات السَّخيفة جواباً، وخطاباً.
وقد يكون من الضروري التصدي لطوفان الغثائيات، مع تحامي المجاراة في الخلق الدنيء، وماكنا لنقارع الإدعاء الفارغ، بالحجة الدامغة، لولا أنه ظل يمارس المشاغبة، ولم يسأم من الترديد الممل، لقد فشل كل الذين اتخذوه بوقا، وظلت المملكة تُجَرِّعه مرارة الهزائم.
ففي جريدة [السفير] التي أفرغت كلاماً مضطرباً مرتجلاً، وأعدته كلقاء صحفي همزٌ، ولمزٌ، وغمزٌ لسياسة [المملكة]، واستخفاف بها، وتقليل من حجمها. وكأنه بهذا الفيض الرخيص مُرْتَهن لخطاب الستينات، الذي أضل الأمة العربية، وما هدى.
حديثه الفج، حديث الجاهل، أو المتجاهل [للمملكة]، قد يكون بعض مايقوله قبل نصف قرن موهماً، أومشككاً. أما اليوم فـ[المملكة] تختلف عما عهده، أو عما صُوِّرت له. ومن ثم جاء حديثه اجتراراً للمهتري من القول، وتسخيناً لطبيخ مُغِب، وادعاءً عريضاً.
ومن الغرائبيات المضحكة قوله: بأن [إيران] و[مصر] تمثلان عمقاً حضارياً، يشرعن الوجود الكريم، والسيادة الثابتة. فيما لا تتوفر [المملكة] على تلك الخاصية الحضارية.
ونحن إذ نكبر البعد الحضاري لـ[الفرس]، و[الفراعنة] فإننا نراهما دون حضارة الإسلام، التي انطلقت من [مكة] و[المدينة] ثم من [دمشق] و[بغداد] و[الأندلس].
ورجل يجهل الحضارة الإسلامية، ويراهن على ماسبقها من [مجوسية] تعبد النار، و[فرعونية] تؤله الإنسان، لايكون أهلاً للحوار، أو الرد.
وبصرف النظر عما عَوَّل عليه من احتقار، واستخفاف بدول الخليج كافة، فإن رؤيته مرتهنة للخطاب الانقلابي في الستينات، المتمثلة ببعض إبداعات [نزار قباني]، وزعيق [أحمد سعيد].
المملكة عايشت الانقلابات العسكرية، وفاض معينها من العنتريات الفارغة. وتهاوت القلاع الورقية الواحدة تلو الأخرى، و[المملكة] صامدة، تزداد تجذراً، وأخذاً بأسباب العيش الكريم، وتنفرد بحضور دولي، لم تظفر به أي دولة ثالثية، انتجت [هيكلاً] ومن هم على شاكلته.
ولو أن مرتزقاً مثل [هيكل] سأل نفسه عن أسباب بقاء هذا الكيان المُحارَب من الشرق الماركسي، والغَرْب الصهيوني، والمجوس الصفوي، لكان جديراً به أن يقف إكباراً، واعتزازاً. فهذا الثبات، وذلك الصمود لم يأتيا من فراغ. إن وراء ذلك سياسة حكيمة، ورؤية حصيفة.
لقد تهاوت الكيانات العربية التي ظل هو بوقاً من أبواقها، يقترف بكل فجاجة مخادعة الرأي العام، ويتعمد تضليله بالوعود الكاذبة.
لقد كان [هيكل] بامكانياته المعرفية، وبراعته البلاغية، ومرجعياته الرسمية، ممن تولى كبر التضليل الإعلامي العربي. متعاضداً مع [فهمي هويدي] و[عبدالباري عطوان] والبائس [الفقيه]، وعلى الرغم من انكشاف اللعبة الإعلامية الزائفة، وتسلل لداته لواذاً، خشية العار، فإنه ظل كما لو كان منتصراً، يجتر أقواله، ويتوسل ببلاغته، وبمركز معلوماته، وكأنه من أصحاب الكهف، ووَرِقِهِم.
وجديرٌ به أن يعود إلى كهفه، ليلحق بجيله، جيل الانقلابات العسكرية التي أضاعت مقدرات الأمة العربية، وأذهبت ريحها، وكرست تخلفها.
[هيكل] الذي أطال الحديث في جريدة [السفير] لم يقل شيئاً، غير أنه يغثي النفوس، ويراهن على بغال هجينة، وهو بقية فلول الهزيمة العربية، الذين ظلوا مرتهنين لمرحلة ماقبل ثورة المعلومات، والاتصالات.
[المملكة العربية السعودية] قطعت أشواطاً في التحضر، والمدنية، والمعلوماتية، والاقتصاد، والتقنية. وجامعاتها، ومؤسساتها، وعلاقاتها الدولية، وتأثيرها في كافة المحافل الدولية حقائق، تتصدر نشرات الأخبار العالمية، والتحليلات العلمية، ومن ثم لا يمكن تجاهلها.
[هيكل] على الرغم من كل تلك الحقائق الدامغة، ينظر إلى [المملكة] فيما قبل هذه الإمكانيات، ويتصورها دولة مشيخة، وينظر إلى شعبها على أنه لفيف من القبائل البدوية التي تعيش لتأكل.
ونسي أنه بهذا المفهوم العتيق [دَقَّةٌ قديمة] كما يقول مجتمع النساء. والذين يراهنون على غثائياته، يظنون أن رؤيته جديرة بالقبول، وأنه قادر على طمس الحقائق، وتوهين الخصم، وحَسْم الأمر لصالح [الراعي الذهبي] لهرائه. ومثلما طويت صفحات الناصرية، هاهي صفحات [الصفوية] تطوي تباعاً.
كان بودي أن ينظر هيكل، والمعولون عليه، إلى الوضع في [المملكة] من حيث الأمن، والاستقرار، والرخاء، واكتمال البنية التحتية، والمجتمع المدني، والتقنيات الدقيقة، والبعثات، والقوة العسكرية، والمعنويات العالية، وتماسك اللحمة الداخلية، ليعرفوا أنهم يجدفون في السراب.
لو كان لي من الأمر شيء، لاستضفته على متن طائرة خاصة، ليرى بأم عينه ماجهلة، أو تجاهله، لا ليقول مانريد، ولكن ليَحفظ ماء وجهه المراق بثمن بخس. ولعله يلتمس لغة أخرى، تسوغه عند الجهلة والدهماء.
فالمعارضة العاقلة تجد ما تقوله [ومن نوقش الحساب عذب]، ولسنا ممن يزكي نفسه، ولا ممن يُصَنِّم قادته، ولا ممن يدعي أنه فوق النقد.
لقد أضعت جهدي، ووقتي بقراءة ذلك اللقاء، وحاولت أن أجد مبرراً لمثله، ولا سيما أنه حديث رجل في خريف عمره، عاصر القادة العرب، وشارك في كثير من المؤتمرات، واللقاءات، وأوقف قلمه للحديث عن سائر القضايا، وخسر كل رهاناته.
ولو أن مايقوله عن [المملكة] حديثا بريئا، لم يقبض ثمنه، لكنا الأقدر على إرشاده، ولكنه حديث صُنع على عين [الراعي الذهبي].
استهل حديثه المرتجل عن الرئيس الأمريكي، متخذاً قضايا [إيران] محور اللقاء. ومحصلته أن [زنجية الرئيس] لم تمكنه من التغيير. وتلك رؤية تماثلها رؤى، فالنظرة العنصرية متجذرة في فكره منذ كتابه [خريف الغضب] الذي لمز فيه [السادات] بسواده، وأصوله.
يقول ذلك بإزاء التهوين من [الحصار] الذي فرض على [إيران] ، كما حاول قلب الهزيمة في المشروع النووي إلى انتصار.
هيكل في عقله الباطن يشعر أنه يغالط نفسه، وقُرّاءه، ومن ثم لجأ إلى المراوغة، والتجاذب مع الأحداث للتمويه.
لم يشأ المجاهرة في دفاعه عن المد [الصفوي]، والتطرف الطائفي، والتدخل في شؤون الغير، وتأجيج المنطقة، وتفكيك [العراق]، وتدمير [سوريا] وجلد [الجثة اليمنية]، وهي كلها فعل [إيراني]، موثق بالصوت، والصورة.
لقد أعطى [إيران] حق الفعل، وأكبر من شأنها، بحيث وازن بينها وبين [تركيا] و[مصر] البعيدتين عن التدخلات، وتصدير السياسات. واتخذ سبيله للتقليل من شأن [المملكة] واصفاً إياها بأنها دولة ثانوية، ليس لها عمق تاريخي، ولا بعد حضاري.
ولأن [حزب الله] مخلب قط إيراني، فقد برر دخوله الحرب في [سوريا] بأنه للدفاع، وليس للنفوذ.
وتلك المقاربات الغبية، المتذاكية، الخاطفة، يراد منها توصيل الرسالة التي ينشدها الدافع لثمن الكلام. حتى وهو يتحدث عن [داعش] و[الإخوان] ويقارن بينهما يتحاشى الكلمات الحاسمة.
و[المملكة العربية السعودية] بقيادتها للتحالف العربي في نظره تنزلق في مستنقع [اليمن].
وحديثه عن العاصفة لم يتناول مثيراتها، ولم يشر إلى حق الحكومة الشرعية، ولا التدخل [الإيراني] من خلال [الطائفة الحوثية]. لأن التعرض لهذا يستدعي الحديث عن مغامرة [إيران]، وخيانة [الحوثيين] لوطنهم، وقوميتهم، وقتالهم بالانابة عنها.
المؤذي، و المغثي أنه يحاول البقاء على هامش الأحداث، والتوسل بالعموميات، ولو كان صادقاً، لأتى الأحداث من أبوابها، وركب المتن، ولكنه يعرف جيداً أنه لو دخل المتن لفقد الجولة، ولهذا حبس لسانه في ظلال الأحداث، وكأنه متنبئٌ للأوضاع، وليس قارئاً للأحداث.
كلامه المرتجل يركز على محورين:
- تبرير الفعل الإيراني بطريقة غبية متذاكية.
- التقليل من شأن المملكة بتورية ملغمة.
ولأن [المملكة] بـ[عاصفة الحزم] أعادت هيبتها، ومكانتها، ونسفت المسلمات الإعلامية، والقول بنجاح المشروع الثوري الإيراني، وأذهبت الخوف العربي من المد المجوسي، فقد وصفها بالمغامرة. وفي سبيل التوهين لمز [وزارة الدفاع السعودي]، وتنبأ بتفكك الأسرة الحاكمة.
كما تناول التناوش بين [إيران] و[أمريكا] بمغالطات مسرفة في التوهيم، متخذاً من زنجية الرئيس ضباباً لتمرير الوهم الذي يظنه قادراً على انتشال أشلاء [الآيات، والملالي] من ردغة الصراع العالمي.
لم يتردد في القول:- [ماتمثله إيران هو الطموح المستقل الذي وصل إلى حد المعرفة الضرورية].
ما أود إيصاله في هذه المداخلة أن يفرق القارئ بين أجير يقول ما قال سيده، وكاتب مستقل يصيب تارة، ويخطيء تارات أخرى.
احتفاؤنا بالمتفق معنا، لا يختلف عن تفاعلنا مع المخالف لنا، متى كان شريفا، يُعَبِّر عن وجهة نظر حرة. يجتهد في البحث عن الحق فيخطئه تارة، فيعود بأجر واحد، أو يصيبه تارة أخرى، فيعود بأجرين. فنحن أمة فاعلة، ومؤثرة، لنا، وعلينا.
[هيكل] أمام حقائق دامغة، لو واجهها مباشرة لأسقط رَبَّ نعمته، وسقط من عيون النظارة، ومن ثم لجاء إلى التأويل الباطل، والخلط المتعمد، والاستطراد المتشبع، فالقارَئ يطيل القراءة، ولكنه لايجد أرضاً صلبة يقف عليها.
لقد استدعى كل الشخصيات السياسية، عربية، وغربية، وطاف كل المواقع، وضرب كل الأمثال، للإبهار الزائف، والتشبع الفارغ، وساق كل الأحداث المعاصرة، وضرب بعضها ببعض، موهماً القارئ بالأشباه، والنظائر.
عقدة [هيكل] فشل رهاناته القومية، والاشتراكية، والوحدوية. ولسان حاله يقول:- [عليَّ وعلى أعدائي] و[أنا الغريق، فما خوفي من البلل].