د. حسن بن فهد الهويمل
كلَّما أجَلْتُ نظري بين الحقول المعرفية في مكتبتي، أحسست أن هناك إلفاً، وحميمية، تعتملان في مشاعري.
تكونان مع ظاهرة معرفية، كمناهج اللغة الحديثة، المعروفة بـ[اللسانيات] لما توفره للقارئ من قدرة فائقة على مخاتلة أدق المعطيات الدلالية.
أو تكونان مع ظاهرة شخصية، استثنائية. تحس في قرارة نفسك، أنها لماَّ تزل تتكشف عن رؤى، وتصورات تصيب مفاصل ما أنت مشغول به.
يمثل ذلك رموز عصر العمالقة، كـ[العقاد]، و[طه حسين] و[مالك بن نبي] و[بدوي] وغير أولئك كثير، المصيب منهم، والمخطئ.
وأنت فيما بين هذا، وذاك تَمُرُّبك قوافل العلماء، والأدباء، والمفكرين، والساسة، ثم لا تتلبث عندك إلا قليلاً، لأنها لا تنطوي على قدرات استثنائية. ولا تتوفر على كم معرفي مُسْتَثْمر.
تكون جهودُ البعض منهم جَمَّاعةً، كـ[النمل]. عندها دأب في العمل، وانضباط في الأداء، ولكنها لا تحيل مكتسبها إلى شيء آخر.
هذا الصنف من الأناسي، جهده ينحصر في الجمع، والتبويب، وتقريب الأشياء، ولكنه جهد جَمْع، لا إنتاج، بحيث لا يضيف إليها شيئاً.
ولربما يوصف هذا الصنف بالعلماء الموسوعيين، كـ[السيوطي] مثلا، صاحب الخمس مائة مؤلف.
ولعلي أفرق بين الموسوعي المعرفي، والموسوعي الثقافي، إن أسعف الجهد والوقت.
المستفيض أن مهارات العلماء، والمثقفين، والمفكرين متباينة. فمنهم من تكمن مهارته في طلاقة لسانه، وقدرته على شد الانتباه، باستحضار الشواهد، وتداعي الأشباه، والنظائر.
وهذا الصنف حين يكتب لا تجد التدفق، ولا الترسل، ولا جمال الأسلوب، ولا عذوبته.
ومنهم من تكون مهارته في سيولة قلمه، وتداعيات أفكاره، {فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ}.
قد تكون الدربة سبيلاً من سُبِل الصقل، وتلافي التقصير، ولكن المواهب تختلف من عالم، لآخر.
[الجاحظ] على سبيل المثال موسعي، ولكنه أَخَّاذ في دقة ملاحظته، وجمال عرضه، وعمق رؤيته، وخفة ظله، وبراعته في تحويل العادي إلى استثنائي.
ولقد أشرت من قبل إلى كتابه [الحيوان] وثرائه المعرفي، الناتج عن دقة الملاحظة، وطول المتابعة، واستقراء الظواهر البسيطة،وحبه للاستطراد الجميل الذي يطرد السأم، ولا يُفَوِّت الاستفادة.
المغرمون بالكسب المعرفي، تصقل مهاراتهم ما يتعرضون له من خداع العناوين، وبراعة التلاعب بالألفاظ.
وهيمنة البراعة، قد تُفَوِّت على المبهور مشروعيةَ التساؤلِ، والمساءلة، وتلك مرحلةُ التسليم، والتبعية.
المثل الأسمى في هذا السياق [أبوبكر الصديق] رضي الله عنه. لقد سَلَّم للرسول قبل أن يُسلِم. وذلك ما حمل [العقاد] على القول:- [أبو بكر أَحَبَّ فأسلم، وعمر أسلم فأحب].
و[الكارزمية] ليست قصراً على العلماء، والمفكرين. فكم من مسؤول، أو رجل أعمال شد الانتباه، وانتزع الإعجاب. وحضر اسمُه في الذاكرة الجمعية. فهي من الثياب في الشغاف، كـ[النقش على الحجر].
والأهم أن يجمع المتميز بين البراعة الإدارية، والإبداعية، والمعرفية، ثم يكون خفيف الظل.
دعونا نستدعي شخصية كـ[القُصَيْبِي] رحمه الله. هذه الشخصية بكل استثنائيتها،ترقى إلى حد الإجماع. له إبداع، وإنتاج يرقيان إلى مستوى التميز. وله أداء وظيفي، وإدارة حكيمة، تنتزع التقدير، والاحترام.
وليس ببعيد عنا فقيدُ السياسة العربية [سعود الفيصل] رحمه الله، الذي جالد، وجاهد نصف قرن في أصعب المراحل، وأشد الظروف تعقيداً، واستطاع بمواهبه، ومكتسباته أن يفرض احترامه، وحضوره المشَرِّف، وأن يولد بعد موته بذكره الجميل، وسيرته العطرة.
تلك أمثلة يفرضها التداعي. والمتميزون إن غابوا جسداً، فهم حاضرون قيماً، وذكراً حسنا.
ربما ينصب اهتمامي على المفكرين، والمبدعين، والمصلحين الذين استطاعوا تحويل مسارات الفكر، والإبداع، وتغيير مسار التايخ. وبالذات المصلح، لأنه أهم من الصالح بذاته.
إن هناك شخصيات عصامية، وليست عظامية، خدمت أمتها، وأحيت ذكرها، ومضت دون أن تستأثر بشيء.
وقد لا تكون في زمن المجالدة، والمجاهدة مَحْضِيَّةً باحترام، ولا بمؤازرة وتأييد. ولكنها حين ذهبت، وانبعث ذكرها الجميل، عادت بوجه جديد، لم يتعرف ذووه عليه في وقت كدها، وكدحها.
وتلك حال العباقرة يُمْتحنون بالتخذيل، والتخلي. وكيف لا يتعرضون لِظلم ذوي القربي، وسنة الامتحان قائمة:- أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ والله قد فتن الذين سبقوا.
وسنة الافتتان من السنن القائمة، وتخذيل المصلحين من الظواهر المألوفة، وقصص الأنبياء حافلة بالمواقف الحرجة، والمؤلمة. وهي مواقف ابتلاء، أو تمحيص. ولا تكون بالضرورة عقاباً.
فالأنبياء معصومون، وإن بدت منهم اجتهادات مخالفة لمراد الله. ومثل ذلك يُسْتدرك عليهم، ويتم تصحيحه، قبل أن يشيع. ومامن رسول مات، إلاوماتركه حق، وصدق.
ولن نضرب الأمثال، لأنها من الوضوح، بحيث لا تتطلب الاستدعاء.
أحسب أنني أخذت بالاستطراد [الجاحظي].
فمثل هذا الموضوع يقوم على الخواطر، والتداعيات، ولكل شخصية مجموعة من الذكريات المتفاوتة بين القبول، والرفض. فما من شخصية إلا ولها نصيب من التفوق، والإخفاق، والخطأ، والصواب. وهي بتميزها تفرض حضورها.
ومن المضر بالمشهد الثقافي لحظات الانبهار، التي تغيب معها العقلية المتسائلة.
فالشخصيات [الكارزمية] قد تُفَوِّتُ على المقتدر استخدام قدراته. والانبهارُ حين يمتد مع ذويه، يؤدي إلى تصنيم الأشخاص، وتمكينهم من تعطيل قدرات الآخرين، على مبدأ [نهاية التاريخ].
والأضَرُّ من ذلك الغلو بالأشخاص، والقطع بأنه لامعقب لرؤيتهم، وإذ يكون من حق أحدنا الأخذ بما توصل إليه العالم، أو المفكر، أو الأديب من آراء. فإن هذا الحق لا يُلْزم الآخرين، إذ لكل مجتهد حقه المشروع في المخالفة،والمساءلة.
أُكْبِرُ في العالِم الموسوعي [شمس الدين الذهبي ت 748] اتساعَ أفقه المعرفي، وهو يكتب التاريخ الحضاري [سير أعلام النبلاء] وسلفيته لم تحل دون العدل مع المخالف،تمشياً مع: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئآنُ قَوْمٍ} فهو قد ساق لكل عالم ماله، وماعليه، ولم يتردد في إنصاف المخالف، ولوسادت تلك الخليقة،لكنا أكثر شيء عدلاً، وتحامله على البعض مَرَدُّه للمرجعية،فعل ذلك مع [أبي حيان التوحيدي] حين وصفه بـ[الزندقة].
ولو كان الناقد المتذوق الموسوعي [أبو الفرج الأصفهاني] صادقاً في مروياته، لكانت موسوعته الأدبية [الأغاني] مغنيةً عما سواها.
ومع ذلك يظل [الأصفهاني] شخصية جذابة، لأنها أضافت شيئاً، لم يتمكن لداته من إضافته.
ولأننا في أجواء التراث المهمش عند البعض، فقد يكون لزاماً علينا أن نشير إلى أربعة عمالقة، لا أحسب الجادين ينفكون عن هيمنتها، على الرغم من اختلاف مذاهبها:
- ابن حزم في [محلاه].
- ابن تيمية في [فتاواه].
- العسقلاني في [فتحه].
- الشوكاني في[نيله].
وكل واحد من هؤلاء الأربعة له مذهبه في الفروع، والأصول. والمشهد المعرفي يعرف لكل واحد منهم مكانته التي لاتنازع. ما أوده ألا يكون الأربعة فوق النقد والمساءلة، وبالذات مع [ابن تيمية].
وسواء اتفقنا، أو اختلفنا معهم، أو مع أحدهم، فإنهم يظلون مهيمنين على مشاعر المتابعين من [أهل السنة والجماعة] لما يمتلكونه من قدرات استثنائية، وإضافات معرفية نادرة.
ولقد يزيد التسليم لمثلهم، حتى تكون المراجعة من لمقترفات. وذلك بعض مانخشاه. لست متأكداً من قدراتي على بلورة ما أريد توصيلة، ولكنني أشعر في قرارة نفسي أنني أكاد أكون مرتهنا لرموز فكرية، ومعرفية، وأدبية، وسياسية، يتفاوت حبي، وكرهي لها، بقدر تفاوت موافقتي لها، واختلافي معها.
أكره من كل أعماقي [محمد حسنين هيكل] لما هو عليه من ارتزاق،ومتاجرة في قدراته، ومغالطات في تناولاته، ولكنني لا أتردد في شراء أي كتاب له، لا متلاكه المعرفة السياسية، وضلوعه في كثير من لعبها، ولقدرته الفائقة على التلاعب باللغة، وتغطية سوءآته، وإيهام البسطاء بمصداقيته، وقوميته.
ولك أن تقول مثل ذلك بحق مفكرين،وفلاسفة، آتاهم الله بسطة في العلم، وشمول في المعرفة. كـ[عبدالرحمن بدوي] و[محمد أركون] و[حسن حنفي] فَخُلُوُّ أي مكتبة خاصة من هؤلا، قادح في قدرات صاحبها. ومع ذلك فلهم من الشطحات مالا يمكن تبريره.
وليس على شاكلة أو لئك [عبدالوهاب المسيري] و[زكي نجيب محمود] و[مصطفى محمود] فهؤلاء يجنحون إلى الوسطية، والمصداقية، والمثالية، وخدمة الفكر دون ميل يذر التعددية كالمعلقة.
ومهما أثاروا من إعجاب، فإنهم لن يُعْشُوا عيوننا عن هفواتهم، ولكنها هفوات لا تؤثر على مكانتهم.
في التراث أجد رحابة الصدر، واحتمال المخالف، وتمكين المشهد من استثمار كل الطاقات، وإن بدت المخالفة في المسطور، أما في المعاصرة، فالخطاب يقوم على المصادرة للحق، والتجهيل للمخالف، واستعداء الرأي العام عليه، والتركيز على التصنيف، تمهيداً للتصفية. لم تغب عني سَلاطةُ لسان [أبي حيان] ولا مضايقة العامة [للطبري] ولكنها خصال، ووقوعات لا تشكل ظواهر.
التجربة تثبت إن في الصدامية، والعنف تعطيلاً لتلاقح الأفكار، وتفويتاً لإنضاج الظواهر. وهذا التعدي على الحق المشروع، يفوت على المتابعين فرصة المتابعة، وتعدد الخيارات، وظلم المؤهلين للحضور الكريم.
وفي التراث -أيضاً- قد تُصَعَّدُ نبرةُ المعارضة، ولكنها لا تَحُول دون الممارسة، وإنجاز المراد، وقد تُستعدى السلطة، ويَسْتَبِد فريق بالمشهد على حساب ماسواه.
نجد ذلك في فتنة [خلق القران] حين استبد بالمشهد [ابن أبي دؤاد] المعتزلي وحَجَر على [ابن حنبل] السلفي، ومع ذلك فالأطراف كلها تمكنت من توصيل رؤيتها، وإن كانت من الصعوبة، والمشقة بمكان.
وعلوق الشخصيات بالذهن، حين تحكمة الفئوية، تَضْوى معه مشاهد الفكر، والمعرفة، وسائر الفنون.
والحضارات لا تتوفر على الحضور الفاعل، إلا إذا قبل أساطينها التعددية، وضَمِنَ الدستور، والقانون، والعرف لكل مجتهد حقه في الوجود الكريم.