د. حسن بن فهد الهويمل
يتأففُ الأشياعُ، والأتباعُ من فيض الإشاعات، والاتهامات التي تتدفق عبر كل قنوات التواصل، للنيل من رموزهم: الشخصية، والاعتبارية، والتقليل من شأنهم. سواء كانوا رموزاً دينية، أو فكرية، أو سياسية، أو تاريخية، أو كيانية.
وما يدري أولئك الفَرِقُون أن هذا الضخ المسرف من السب عائد بالفضل العميم، لمن يخافون عليهم. وعائدٌ بالمعارف الغزيرة على كافة المشاهد.
سئلت أم المؤمنين [عائشة] رضي الله عنها، عمّا يريده المتنقِّصون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت:- [لعل الله قد أعدَّ لهم في الجنة نُزلاً، لم يبلغوه بأعمالهم، فقيض الله من يغتابهم ليُضاعف حسناتهم من أعمال المغتابين]، - أو كما قالت - بأبي هي، وأمي.
وحين قال حسان في مدحها:- [وتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِل].
قالت:- [ولكنك لم تصبح أغرثا]، إشارة إلى [حادث الإفك].
ليس هذا فقط. وإن كان رأس المكاسب. فالذين هَبُّوا لنُصرتهم، كرسوهم، وأشاعوا ذكرهم.
يقول [العقاد] في إحدى مقدمات عبقرياته:- [إن من علامات العبقرية، أن يختلف الناس حول الإنسان، بحيث يكرهه قوم، حتى يقتلوه. ويحبه آخرون حتى يعبدوه]. أو كما قال عفا الله عنه.
وهو بهذا، يقصد أمير المؤمنين، الخليفة الراشد [علي ابن أبي طالب] رضي الله عنه.
والراصد الواعي لما يُتَداول في مشاهد الفكر، والسياسة يَقفُ على مفتريات، لا يقبلها عقل، ولا يقرها منطق.
حتى الذين يختلقونها، يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم كاذبون. وكفى بالمرء خِسَّةً، ودناءةً أن يفقد المصداقية، والعدل في الحكم.
وما يدري أولئك المفترون أن الحياة مواقفُ، وقيمٌ. وليست أشياءَ ماديةً. وتأنيب الضمير ينغص حياة المفتري، ويشعره بالدونية.
والتعصب المقيت جزء من تأليه الهوى. ومتى ساد التَّسْليم، والإذعان، والتبعية للسائد، أوغلت الحياة في الضلال، والاضمحلال، وأصبحت مشروع فتنة عمياء.
الإسلام دعا إلى التدبر، والتفكر، والتساؤل. وإيمان الاختيار أفضل من إيمان الاقتداء، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}. وقَفْوُ الآثار دون تدبر، وتأمل، وفحص مظنَّةُ الضلال.
الدنيا مليئة بالعظماء، وهم يتوارثون راية المجد كابراً عن كابر. والذين حصروهم بمائة، لايُسَلِّمون لهذا العدد، وإنما يذكرون الأكثر حضوراً، والأقوى تأثيراً.
الشيءُ المؤذي، والمجدي - في آن - كما تقول أم المؤمنين - النيلُ من كبار الصحابة رضوان الله عليهم.
ما أود إيصاله لهذا الصنف المتجني عليهم، مجرد تساؤل.
الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، والإسلام، وشهدوا معه المشاهد كلها، وبذلوا الحياة، والمال، والجهد، والوقت، وهجروا الديار، والأهل، والأحباب، وتعرضوا للموت، والعداوة، في سبيل نصرته، ومات وهو عنهم راض، ودفن صاحباه في جنبه، وحقق الله لهما بذلك الصحبة الدائمة، في الحياة، وبعد الممات.
هل يستحقون اللعن، والطعن؟.
لو سلَّمنا بهذا في حق الشيخين [أبي بكر وعمر] لقلنا بأن الرسول عاجزٌ عن تمييز الصادق من الكاذب.
والتسليم لأولئك قادح في أهليته. وكيف لا يدرك حتى خيانة زوجاته؟.
القبول بهذا الافتراء، يلزمنا الاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم غير مُهَيَّأ لحمل الرسالة. فرجل يغدر به كل أصحابه، وتخونه كل زوجاته، ثم لايدري طوال حياته. يُعَدُّ بهذا رجلا دون الأهلية.
وحاشا لمصنوع على عين الله، أن يكون كذلك. وحاشا لمن قال الله عنه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أن يكون بهذه البلاهة، وذلك التغفيل. وعظمة الخُلُقِ تقتضي القدرة على معرفة الأبعدين فضلاً عمن حوله.
وكيف يتأتى هذا التصور، والله سبحانه وتعالى فضح المنافقين. والرسول عرفهم بسيماهم. و[عمر بن الخطاب] لم يعرف حتى نفسه، ومن ثم سأل أمين سر الرسول [حذيفة بن اليمان] عمّا إذا كان معدوداً من المنافقين أم لا.
ألم يكن الخلفاء عظماء، وأمهات المؤمنين عظيمات، وكبار الصحابة من البدريين، وأصحاب بيعة الرضوان عظماء؟
إنهم عظماء. وإن رغم أنف القادحين، ومع ذلك لم يَسْلموا من الافتراء. بل لم يسلموا من التكفير، واللعن.
العظمة أسُّها الاختلاف، ومن شاء أن يكون عظيماً، فَلْيُعِدَّ نفسه للثلب، والنقد، والتجريح. ومن ضاق بها ذرعاً، فإن أفق العظمة يضيق به.
ومن أحب الله، ورسوله، وآل بيته، وصحابته، وأزواجه، فَلْيُعِدَّ نفسه للابتلاء، والامتحان، والتمحيص.
في محيطنا المحلي مُلئت المشاهدُ ذماً، وقدحاً في حق علماء، ومصلحين، وأدباء، ومبدعين، وساسة، ومسؤولين.
وساير المناوئين مَنْ سايرهم. ولزم الصمت من لزمهُ، وحين قضوا نحبهم، أثبت التاريخ أنهم عظماء في أخلاقهم، وفي أماناتهم، وفي تفانيهم، وفي مواطنتهم.
لن أضرب الأمثال، فالظواهر فاقعة اللون، بادية للعيان، والشواهد في متناول الأيدي، ولكنني أود من المسايرين، والصامتين، أن يعيدوا قراءة الواقع بعيون مجردة، لا يحكمها السائد، ولا تُصَرِّفها الوِجَادة. وأن يعلموا أن من مستلزمات العظمة الاختلاف.
وحين نُنَحِّي جاهزيات الأحكام، نكون كمن عَفَّ عن العطاء، وبادر الافتراس:-
[فَامْنَعْ نَوَالك عن أخيك مُكَرَّماً
فاللَّيْثُ ليَس يَسِيْغُ إلا ما افترس]
دعونا نفري بأيدينا، ولو على مبدأ {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
المشاهد كلها تفيض بالكذب، والبهتان، والافتراء. والمتابع المتأفف يكاد يشك في نفسه، ورحم الله شاعر الحرمان:-
[أكَادُ أشَكُّ فِي نَفْسِي لِأَنِّي
أكادُ أشكُّ فيك، وأنت مِنِّي].
لابد من ترويض النفس، ومعايشة الواقع.
وإذا أفْتُرِيَ على العظماء، فإن الافتراء على المذاهب، والظواهر، والكيانات السياسية، والدول من باب أولى.
وهل أحد ينكر ما يقال عن دعوة إصلاحية سلفية، أو عن دولة مسلمة، مسالمة، حَمَّالة، من افتراءات، لا تحتمل؟.
ومع ذلك تجد هذه المفتريات من يتلقاها، ويسعى في إشاعتها. مُجَانِفاً للتوجيه الرباني:- لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا .
لا أريد لرؤيتي أن تكون دفاعاً عما أنتمي إليه، ولا تعصباً لما أؤمن به، ولكنني أود من الرأي العام التحري، والتساؤل، وتجاوز المتداول إلى متن القضايا.
وحين يتضح الحق، يتعين الأخذ به، والدفاع عنه، وإبراء الذمة بقول الحق، ولو كان على النفس، أو على الأقربين.
إن فقد المصداقية مَذَمَّة. والمصداقية ذروة سنام الأخلاق:
[وإنَّما الأمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيت
فإن هُمُوا ذَهَبَتْ أخلاقُهم، ذَهَبوُا].
قد نستسيغ الاختلاف حول الشخصيات، لكونه ناتج جهل، أو نقل خاطئ. أما الاختلاف حول المبادئ، والمذاهب، والكيانات، فلربما يكون مردُّه في الغالب إلى الجور، والكذب، وصراع المصالح. ومن ثم لايعد من الاختلاف المحتمل، أو المعتبر.
وعلى كل الأحوال، فالحياة قائمة على الاختلاف، دون أن يصاحب ذلك عداوات، تؤدي إلى القطيعة، أو الصراع. يتبع...