د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يوم بعد الآخر يكتشف العالم أن عولمة الاقتصاد، على الأقل بشكلها الحالي ليست نعمة جلها، بل قد تكون عاملاً رئيساً في تضخيم مشاكله. وهي ليست فقط مؤثرة في دفع النمو الاقتصاد العالمي، بل خطرة أيضاً في نشر ركوده وهزاته وعلله الأخرى. وقد توالت هذه الأزمات المعولمة بشكل جعل الشكوك تساور بعض الخبراء حول جدوى عولمة التنافس بين الكتل الاقتصادية الكبرى بعد أن كانت النظم الرأسمالية تعتمد على التنافس بين الدول كوحدات أصغر لها حدود مقاومة لما يحصل حولها وخارجها.
فالنمو العالمي يأتي محبباً وتدريجياً ومعه قدر كبير من التفاؤل، أما الهبوط فيكون مؤلماً ومصحوباً بقدر أكبر من التشاؤم، وبما أن الإنسان يخاف الألم أكثر من توقعه بالفرح والأشياء المفرحة يكون للإحساس بالهبوط الاقتصادي وقع أكبر من النمو الذي إذا ما استمر لفترة ما خاله الناس دائماً وطبيعياً بحيث يصبح الهبوط معه مفاجئاً وأكثر إيلاماً.
أكثر جوانب الاقتصاد استجابة وحساسية للتغيرات الاقتصادية سلباً أو إيجاباً هي أسواق المال تليها أسواق السلع، أما العوامل الأخرى كالتباطؤ والبطالة فهي كالصدوع في الجدران تأخذ وقتاً أطول للظهور وتتطلب وقتاً أطول للعلاج. وأسرع الأدوية المسكنة للأزمات الاقتصادية هي السياسات النقدية التي لا يتطلب تغييرها أكثر من قرارات من البنوك المركزية، أما أصعبها فهي إحداث نمو حقيقي في الاقتصاد فذلك يتطلب ليس المال والجهد فقط بل التخطيط السليم والوقت الطويل نسبياً.
وكما يقال فإن مصطلح «ثقافة» بمعناه المتداول في علم الاجتماع ظهر بعيد الثورات الصناعية وذلك بعد بروز التغيرات الهيكلية الطارئة في المجتمعات بسبب تكوّن الطبقات العمالية بعد الانتشار الكبير لقطاع الصناعة في أوروبا الذي أفرز طبقات عمالية تعمل في المصانع والمناجم، وطبقات وسطى من أصحاب الياقات البيضاء العاملين في المكاتب يخططون ويديرون الطبقات العمالية، وبروز قشرة اجتماعية من الرأسماليين أشبه بالبقشدة التي تطفو فوق اللبن بعد خضه وهي طبقة الرأسماليين التي تملك الأموال التي تشغل الآلة الرأسمالية. وإثر ذلك ظهرت دراسات ما يسمى بعلم نفس الجماهير يحلل هذه التوجهات الطبقية ويحاول التأثير فيها. واليوم وبعد الانتشار الكبير للشركات عابرة للحدود الذي توّج بدفعها حكوماتها نحو عولمة الإنتاج والاستهلاك أصبحت لدينا مجتمعات معولمة اهتزازاتها أقوى وأبعد تأثيراً، ونحن أحوج ما نكون اليوم بعلم نفس مشابه لعلم نفس الجماهير يكون اسمه مثلاً «علم نفس الشعوب» ليدرس ويحلل ظواهر التسونامي السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تطال العالم بأسره وتؤثر في تقلباته العاطفية. فالأسواق الناشئة وإلى حد كبير بعض الأسواق المتطورة تصيبها ارتدادات اهتزازية لما يحصل في الاقتصادات التي يمكن أن يطلق عليها الاقتصادات العظمى كأمريكا والصين واقتصاد اليورو، ويكون تأثيرها النفسي أكثر من تأثيرها الحقيقي. حصل هذا بعد أزمة الائتمان التي بدأت في أمريكا بإفلاس سلمون بروذرز في 2007م، وأزمة ديون اليونان، ثم أخيراً الهبوط الكبير والمفاجئ للسوق الصيني في الاثنين الأسود في 24 أغسطس. وقد تسبب هذه الهزات مآسي حقيقية للطبقات الأقل تحملاً والأكثر انكشافاً عليها.
وبالرغم من انتظام بعض السلوكيات الإنتاجية والاستهلاكية والمالية لكنها كما ثبت اليوم لا يمكن التنبؤ بها بشكل دقيق وفق ضوابط علمية، ولو كان الاقتصاد علماً طبيعياً لأمكن التنبؤ وتجنب الكثير من الهزات والكوارث الاقتصادية. وما نراه اليوم من هزات كبيرة أسهمت فيها بشكل كبير التطورات الكبيرة في نظم المعلومات التي لم تسهل فقط حركة الرساميل عبر الحدود بسرعة كبيرة فقط، بل مكنت عدداً قليلاً من الرأسماليين بالتحكم في ثروات ضخمة في عدة اقتصاديات بكل سهولة ودقة. وبما أن ما يتاح لهذه الطبقة من المعلومات ودراسات أكثر مما يتاح لغيرها فهي لم تكن مستفيدة من هذه الهزات فهي الأقل تضرراً منها. وهذا سبب ظهور طبقة جديدة من التريليونيرات التي لم تكن ممكنة قبل ذلك. وللأسف فإن التطور في عولمة الاقتصاد لم يصاحبه ظهور تنظيمات معولمة لحماية الشعوب فسقطت جميع حدود الطمع ومعها حدود الفقر، فلا يعقل في ظل التطور العلمي والوفرة الاقتصادية العالمية أن تتقلص الطبقات الوسطى ويتفشى الفقر والبطالة في كل مكان.
وحسب صحيفة الإيكونوميست لهذا الشهر فما حصل في السوق الصيني من هبوط يعود في جزء كبير منه إلى هلع وتوجسات حول السوق الصيني الذي استمر بالنمو بنسبة 5 %. ولكن التخوف الداخلي الصيني يتعلق على وجه الخصوص بالنظرة المستقبلية لسوق العقار الصيني الذي دفعه الانتعاش ليسهم بربع الدخل القومي الصيني فيغذي البنوك بالأرصدة التي تقرضها للمستثمرين في القطاع الصناعي. والتخوفات الصينية من هبوط سوق العقار حقيقية وهي مقلقة أكثر منها من هبوط سوق المال. ولعل في ذلك إجابة لمن يطالبون بالإنزال القسري لقطاع العقار لدينا، وينظرون للأرض على أنها تراب فقط ولا ينظرون لما هو أبعد من ذلك!!
والاقتصاد الصيني كما يقدر له لا بد أن يعتمد مستقبلاً في انتعاشه على الاستهلاك الداخلي في الصين ذاتها بعد أن كاد يلامس مداه في الاعتماد على التصدير نتيجة لعودة اليابان وكوريا للنمو والمنافسة ولهبوط الين واليورو. وهبوط أسعار العقار في الداخل سيؤدي إلى حالات إفلاس واسعة أو على الأقل لجوء المواطنين للادخار بدلاً من الانفاق. والقضية، كما أسلفنا، ليست في الخطر الاقتصادي على الصين فاقتصادها مازال ينمو بمعدلات جيدة ولكن ليس بالوتيرة ذاتها، ولكن المعضلة هي في اعتماد الاقتصاد العالمي المعولم على الصين إنتاجاً واستهلاكاً. فالوجه الآخر لعولمة الاقتصاد هو الخوف من تغير في السياسات النقدية الأمريكية برفع سعر الفائدة في سبتمبر والذي يعني فيما لو استمر خروج رؤوس الأموال المستثمرة في الأسواق الناشئة إلى أمريكا، ولذا سارعت أمريكا في تأجيل تغيير سعر الفائدة وهذا يمنح الصين أيضاً مرونة لخفض سعر الفائدة على اليوان.
والهلع الذي أصاب الاقتصاد الصيني سرت عدواه بسرعة مذهلة للاقتصادات الناشئة أولاً، ثم الدول المصدرة للسلع الأولية كالحديد، والنفط، والنحاس وغيرها التي تعتمد على الاقتصاد الصيني. وهذا ما عزز المخاوف أيضاً من انكشاف الاقتصاديات الناشئة على هزات الاقتصاد الصيني. وانتقلت العدوى للأسواق الأمريكية والأوروبية. وحسب الإيكونوميست فالأسواق المالية العالمية خسرت ما يقارب 5 تريليونات دولار جراء هبوط السوق الصيني. والواضح أن العالم لا يمكن أن يستمر في هذه الفوضى الاقتصادية المعولمة ولا في توالي الأزمات التي تعصف بمدخرات الشعوب الضعيفة ومواردها الطبيعية وتبقيها أسيرة للسياسات الترشيدية والاقتراضية التي يطالب بها البنك الدولي في كل مرة تحدث فيه هزة عالمية. فالعالم المعولم يحتاج أيضاً لنظم معولمة لإحقاق العدالة الاقتصادية للشعوب الفقيرة المتضررة حتى ولو تطلب ذلك دفع تعويضات لها أو تحديد سعر ثابت لسلعها الأولية التي تباع خاماً وتستوردها هي في شكل بضائع معمرة.
كما في الأمر درس لنا نحن، حيث ظهر مؤخراً دعوات للترشيد في النفقات مع أنه يفترض أن يكون الترشيد هو الأساس الدائم لسياساتنا الاقتصادية، والإنفاق على المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية والإنفاق على البني التحتية والمشاريع التي يمكن أن توظف آلاف الخريجين لا يدخل ضمن الترشيد لأن عائده أكثر من مصروفاته، ولكن الترشيد المطلوب هو على النفقات غير الضرورية، وعلى المشاريع المتضخمة التي تنفذ بأقل بكثير مما يعتمد لها، والترشيد في نفقات الشركات الأجنبية التي يمكن إحلال شركات سعودية محلها حتى ولو تأسست بجهد حكومي، وللمعرفة فقط فإن الشركات المحركة للاقتصاد الفعلي الصيني شركات تملكها وتديرها الحكومة الصينية.