د. خيرية السقاف
لحقت بالناس آثار البعد عن معين الأخلاق الفاضلة..
بعد أن شغلوا عنها بكل ما يسرق منهم اللمحة في لمحة الثانية من أوقاتهم.. فلا وقت للتريث، وللتعليم, وللصبر على الغرس, وحرث أرض النفوس والعقول وسقيها..!!
ذلك لأن الأخلاق عصبة من القيَم, وعميق من المعاني، ورابطة من السلوك، تؤسس, وتغرس وتهيأ لها المدارك والنفوس في المرء بالتوجيه, والتعليم, والاقتداء, والتمثُّل, والبرهنة في المواقف.. فإذا ما تشربها المرء وتمثلها يشار لصاحبها بذي الخلق, المتحرك على الأرض في كامل سلوكه, وحسه, وقيمه, وأفكاره, ومبادئه نموذجاً لها.
الأخلاق تُكتسب، لا تهمل فطرة الإنسان دون تشكيلها وفق معاييرها, ومكوناتها..
لذا كانت الأخلاق أول ما تعنى بها المحاضن, وتوقظ في المواقف مؤشرات الوقوف عند محكاتها..
المربون كانت الأخلاق أول ما يزجون في معينها الغض من الناشئة, يفندون معانيها, ويعلمون مسالكها, ويغرسون قيمها, ويعنون بنتائجها..
وكلما كانت العناية بالتدريب عليها اجتمع للمرء من عصبتها خيوطها، وتشكل نسيجها؛ ليكون المرء حاملاً أنبل الأخلاق وأصدق الصفات منها, برهانه لسانه, ويده, وجأشه, وفكره, وحركته, ولمحته..
حتى الضحكة يطلقها المرء في موقف ومكان, وبين أناس وآخرين تنم عن معدن خلقه, وتركيبة مكوِّنه..!
في كثير مما كشفت عنه وسائط التواصل, وبرامج التواصل, وأساليب التعبير, ولغة الخطاب, ومضامين الحوار وإن جاءت في صورة, أو» تغريدة»، أو تعليق, نجد أن معقل الخلق النبيل قد دكَّ في مقتل, وأن كثيراً من الناس قد هشت فيه جذور أخلاقه, وتضعضع فيه قوامها, ولم ينشأ على متانتها ولا أصولها, ولا قيمها..
وأشد هذا السلوك إيلاماً لمن يتأسى عليها ما يجده ظاهراً في الألسنة من التساهل في الطعن في الآخرين, وفي الترصد لزلات الغافلين, بل بسهولة الخوض مع الخائضين..
ثم إن الصغير لم يعد يوقر الكبير, مازحاً أو قادحاً, حتى من يظن أن لديه من الحقائق ما يجرح به، يستلُّه سكيناً ليس في الظهور بل في الصدور..
ساعد على عدم الوقاية من سيئي الأخلاق هذه التقنية الحديثة التي كانت الوسيط الأفتك لأخلاق الناس, والوسيلة الأسرع لكشف عراها..!
وأولئك يحسبون أنهم على حق وهم على باطلِ نفسٍ ربيت بعيداً عن معينٍ زلال, وفكرٍ لم تُدرب مداركُه في جداول نور.. فلم ينهل ما يقيه عثرات أخلاقه, ولا ما يحفظ للآخرين عنه سمعهم عن الإيلام, أو قلوبهم عن الأحزان..
نعم, إن كل كلمة سيئة تكتب بلا تحفظ, ورأي جارح يطرح دون خجل, وحوار هش ينشأ في غوغاء, وموقف متجاوز يقوم بلا واعز ذاتي, تكون فيه الأخلاق الفاضلة في مذبح هو مصدر إيلام، ومحرض حزن..!!
والناس اجترأت بسوء أخلاقها على الناس..!
فليت الالتفاف حول عصبة أخلاق محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ذي الخلق العظيم بشهادة خالقه الأعظم في كتابه المنزل أن تكون أول ما يكون مقصداً في خطط التربية, ومسالك أرباب المحاضن بدءاً..
ومن قبل ليت كل من يتجاوز بسوء خلقه غفلة الآخرين أن يشمر عن عزمه بلوغ سلوك ومقاصد الأخلاقيين.. فإنما «الأمم الأخلاق...»!!