د. خيرية السقاف
«إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا»,
صدق الله الهادي الودود,..
هما الأبوان في تعليمات رب السماء, لكل من يدب على الأرض.., مقياساً للصلاح فيه,
لأن المرء حين يبلغ من العمر عقوداً يشيخ, يهرم، يوهن عظمه, يشتعل رأسه شيبا, تضعف عظامه, ترق أعصابه, تبهت ذاكرته, يشفق قلبه..
حتى لسانه يسكت قد كلَّ من الكلام عمرا,..
يغور سمعه, فأذناه ترمدتا من ضجيج الدروب, والأصوات سنينا..
تشف نفسه, فقد أثقلتها تقلبات الحياة, وخيبات المواقف, وقسوة الدواليب, واختلاف المارين, وألوان الوجوه, ووقع المواقف, فشلا ونجاحا, وعطاء وأخذا, ونعيما وجحيما..
ما يلغ المرء مسنا إلا يقف على حافة، يتردى منها إن لم يكن له من يسنده, يتحمله, يحتويه, يتجاوز عنه, يحتمل مرضه, وإلحاحه, وتقلبات مزاجه, وشريطه الذي يفرطه استلهاما يسترجع به قوته, وشبابه, وعطاءه, ونجاحه بعد أن أسلم مفاتيح قاربه،..
فمن الذي يفعل إلا ابناً باراً بالمسن أحد الوالدين أو كليهما,..
وإلا قريباً محباً, أو صديقا, أو راجيا إن لم يكن المسن أحدهما..
فالمسنون ليسوا فقط الوالدين.. وإنما كل من بلغ به العمر عتيا..
إن قصص الوفاء للوالدين, والبر بهما تخضرُّ بها السطور,..
وإن مواقف الوفاء للمسنين في االقربى, والأصدقاء, والجيران تزهر بها الحكايات, وتمضي بها ركائب الصدق, والنبل, والإحسان, ومحاسن الشيم, وجميل الأعراف..
أما وقد خصص يوم الأول من «أكتوبر» كل عام للميلاد يوما عالميا للمسنين..
وأما وقد أنشئت دور لهم في أنحاء الأوطان والمدن.., وغدت جزءا من خدمات المجتمع المدني..!!
ألا فإنهم الغرباء..
فغالبية الأبناء لا يلقون لهم بالاً في المنازل,..
يخصصون لهم حجرات منعزلة منها, ويكلفون لهم من يقوم بخدمتهم، ويمرون عليهم عبوراً..!!
وإن غالبية الزوجات يتحكمن في علاقات أزواجهن بوالديهم, وبكبار أسرهم سناً,..!
وإن أكثرية الشباب في البيوت يتأففون من المسنين بعد أن كانت الأجيال قبلهم تجد فيهم مصادر الحب, والود, والخبرة, والملجأ النفسي, والروحي..
هؤلاء الغرباء قد يموت منهم على فرشهم, ومن ثم يجدونهم بعد أن تفارقهم الحياة جثثاً صامتة..
هؤلاء الغرباء..
هؤلاء الغرباء كم منهم قتله أبناؤه, أو أحفاده كظماً, وقهراً,..
وكم لفظوهم نكراناً, وظلماً..؟
وكم قتلهم أهلهم صدوداً, وجحوداً, وإهمالاً..؟
بل كم قتلهم الطامع في مالهم, أو المتحين موتهم, أو الجاهل حقهم..؟
هؤلاء الغرباء..
يبقون ضياء البيوت في صبح يتنفس على وجوههم الطيبة, وأصوات دعائهم الدافئة..
يبقون «البركة» في البيوت, و»الأمان» في الأحياء, و» الطمأنينة» في المجتمع..
هم الركع السجد, هم اللسان اللاهج بالدعاء, والقلب الخالي من الأطماع, والخافق بالحب الصادق بلا أغراض..
فلتغلق أبواب دور المسنين, ولتفتح أبواب الحجرات المغلقة عليهم, وليوضعوا في صدارة المجلس والقلب..
إنهم الأساس, وإن الوفاء لهم صلاح نفس, ومسلك وفاء.