د.محمد الشويعر
استعرضنا في المقالات السابقة بعض الذكريات المتعلقة ببداية هذا النوع من التعليم، إضافة إلى الاستجابة التي تلقاها عند الناس بين مؤيد ومعارض، وكذلك نماذج من كيفية تعبير بعض القرى والمدن عن هذه الاستجابة، وكيفية الحلول التي اتخذت تجاه تلك التعبيرات،
ثم تدرجنا في المقال الثالث إلى نماذج من الصعوبات التي اعترضت مسيرة هذا النوع من التعليم، وتحدثنا عن عدم توفر الكوادر المؤهلة في النساء في ذلك الوقت، وضعف التحصيل العلمي عندهن، مما سبّب صعوبات، ومما ذكرنا أنه تعسَّر البديل خصوصاً أن التعاقد من مصر تلك الأيام مقفل نهائياً، ومستوى تعليم المرأة في بقية الدول العربية ضعيف جداً، وفيما يلي نواصل الحديث حول هذه النقطة.
فمن الأدلة على تعسر البديل كما قلنا: إن الرئاسة في عام 1386هـ، أرسلت بعثة للسودان للبحث عن معلمات، ومكثوا 60 يوماً في الخرطوم، وبالاتصالات مع وكيل وزارة التربية، والمسؤولين في التعليم، لم يتحصلوا على من تحمل الثانوية وترغب العمل في المملكة، إلاّ واحدة؛ لأنّ زوجها يعمل في الرياض، وكان من شروطها وشروط زوجها، أن تعمل في مدرسة قريبة من سكنه، فتم ذلك لعدم وجود البديل، وكان موظفو الرئاسة فيما بعد يتندّرون على رئيس اللجنة بالسودان ويسمونه أبو واحدة؛ ولتبرير ذلك قال وكيل وزارة التربية بالسودان: نحن نشكو العجز فكثير من مدارسنا للبنات لا يُدرّسُ فيها إلاّ رجال.
وهذا ما أحوج الشيخ: ناصر بن حمد الراشد، الرئيس العام، إلى عرض الموضوع على سماحة المفتي، باعتباره المشرف العام، ومناقشة المشكلة وآثارها على العلوم الدينية خصوصاً ثم اللغة العربية، فكان الحلّ المقترح الاستفادة من المكفوفين، حملة كلية الشريعة؛ ليسدّ بهم بعض الفراغ، وبخاصة في المدارس الثانوية، وفي معاهد إعداد المعلمات وقد تمَّ ذلك بالفعل.
لكن جاء الأستاذ أحمد محمد جمال من مكة - رحمه الله - معترضاً، فدخل على الشيخ ناصر، وكنت عنده ذلك اليوم، فقال: يا شيخ ناصر أهانت عليكم عورات المسلمات، حتى تجعلوا الرجال يدرِّسونهنّ، وأين أنت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعمياوان أنتما)) ؟ [الصواب أنه ضعيف شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة. ينظر: (فتاوى سماحة الإمام ابن باز 26: 227، 228) ] إن هذا لا يجوز ومع حماسته فقد أكثر الكلام في الموضوع، ثم سأله الشيخ: ناصر: في أي مدرسة تدرس بناتكم؟
فأخبره فرفع سماعة الهاتف طالباً مدير تعليم البنات بمكة، آمِراً بإبعاد المدرّس الكفيف عن هذه المدرسة، ووضع مُدرّسة مُناسبة مكانه من هذا اليوم أو غداً، وأحسنوا الاختيار.
فقال له الرئيس العام: هل يرضيك هذا ؟ فخرج الشيخ أحمد من عند فضيلة الشيخ داعياً وراضياً، وعاد إلى مكة.
وبعد 15 يوماً رجع ودخل على الشيخ منفعلاً جداً، أكثر من ذي قبل، وفي يده دفتر مدرسيّ، وقال: يا شيخ ناصر أرجِع المكفوف لمدرسة بناتنا، فسأله: لماذا؟ مع أن نقله كان برغبتك، فقال: اقرأ يا شيخ ناصر، ومدَّ إليه الدفتر، فأخذتُهُ منه لأقرأ على الشيخ ما فيه، وإذا المدرسة مصرية خريجة كلية الفلسفة قسم الثقافة الإسلامية، وزوجها يعمل بالمملكة، وإذا هي قد أملت على الطالبات، في مادة التفسير لسورة النجم، في الآية الكريمة:
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [سورة النجم، الآية 32].
وتقول في إملائها عليهن: يا بناتي: {كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} هي كبائر الذنوب {إِلَّا اللَّمَمَ} هي الزنا والسرقة وأمثالها من صغائر الذنوب.
ثم قال: يا شيخ ناصر كلّ بناتنا بهذا المفهوم، سوف يتجهن للزنا والسرقة، ما دامت مدرِّستهن هذه، هذا علمها عن صغائر الذنوب، فما بالك بالعقائد والتوحيد، وغير هذا من سائر العلوم الدينية.
يا شيخ ناصر: شرّ المكفوفين أهون من خير هؤلاء المدرسات، ما دام هذا مفهومهن لأمور ديننا.
فما كان من الشيخ ناصر، إلا أن رفع سماعة الهاتف لمدير تعليم البنات بمكة مرة ثانية، قائلاً: أعيدوا المكفوف للمدرسة التي فيها بنات الشيخ أحمد، وانقلوا المدرّسة عنهن، ولا تسند لها مادة العلوم الدينية بعد الآن.
وفي المدن الصغيرة والقرى، استقرّ الرأي على تركيز الحل: في الاستفادة لمعلمات العلوم الدينية، وهو من الحلول الوقتيّة، من معلمات الكتاتيب (المطوّعات) وذلك بتبنّي استثناء من المقام السامي، على تعيـينهن بالمرتبة الثامنة، مدرسات للعلوم الدينية، في المدارس المتوسطة، والصفوف العليا بالابتدائي، وإن كُنّ لا يحملن شهادات ولا يحسنّ الكتابة بل القراءة فقط؛ لتعذُّر الحصول على معلمات للعلوم الدينية.. ويعوّض عن الشهادة بإثبات من قاضي البلد، أو رئيس الحسبة، بأن فلانة بنت فلان، معروفة لدينا بأنها كانت تُدرّس البنات القرآن الكريم في بيتها، وتعلمهن القراءة وأنها حسنة السلوك والسيرة، فلمّا جاءت الموافقة طُبقت تعيـيناً، في أنحاء المملكة، واستمرت خدماتهن، حتى التقاعد أو الوفاة، وقد سُدّ بهن الفراغ.
ونموذج لذلك ما نُشر في جريدة الرياض يوم السبت 7 رجب عام 1428هـ، عن إحالة المدرّسة بمدرسة شقراء الأولى للبنات لبلوغها في الخدمة 40 عاماً، وأُقيم لها احتفال كبير، وزعت فيه الدروع، اعترافاً بدورها، ولأن جميع المدرسات في المراحل التعليمية بشقراء، ومنطقة الوشم وغيرها، من طالباتها، وعن نجاحها في التدريس، رغم أنها لا تحمل أيّ شهادة دراسية، إلاّ من مدارس الكتاتيب.. وداخلة في الاستثناء ولكنها طوّرت نفسها بنفسها.
ولا بدّ أن لها مثيلات كثيرات، استفدن من ذلك الاستثناء، وأدّين دوراً جيداً، وأفدن واستفدن.
وأذكر حادثة فيها نوع من الطرافة والمفاجأة، فقد جاء شخص من قريته، باحثاً عن عمل بعد أن مسّه الفقر بنابه، وعلقته الديون، وشُفع له بالعمل لدى رئاسة تعليم البنات، واشْتُرط عليه في التعيين، أن يكون بواباً لإحدى المدارس، وأن تتعين معه زوجته، حيث إن الشيخ ناصر - رحمه الله -، لا يوافق على السائق أو البواب، أو المندوب، الذي عمله أقل من إدارة التعليم في التّعين إلا وهو متقدّم في السن، وتتعيّن معه زوجته؛ لتكون مرافقة للسائق، في ذهاب وعودة الطالبات يومياً، ونُقْطَة وَصْلٍ للبوّاب بينه وبين المديرة والمدرسات، ومراقبة خروج الطالبات، والمندوب كذلك، حتى لا تكون له صلة مباشرة بالمعلمات والمديرات، إلى آخر ما في هذا من احتياطات.
تعين هذا الشخص مع زوجته بواباً، وإن احتيج إليه في أتوبيس (حافلة) توزيع الطالبات، رافقته للاطمئنان على وصول الطالبات لأهاليهن أو المدرسة، وكذا من يركب من المدرسات، مع الطالبات.
وقد كانت هذه المدرسة التي عملت فيها زوجة هذا البواب فيها أدوات، وأوانٍ للتدبير المنزلي (ودافور) تجهّز عليه أنواع المأكولات الداخلة في المنهج التعليمي، وفي حصص التربية المنزلية العملية للتجارب، والتطبيقات، وفي الامتحانات.
وفي يوم من الأيام فُقِدَ هذا الدافور، واتّهمَتْ به زوجة المذكور، ولم ينفعها نفي هذه الوصمة عن نفسها، فأصرّتْ مديرة المدرسة على إثبات التهمة عليها، بل لم ينفعها وزوجها شراء دافور جديد بدله، فأصدر الشيخ ناصر - رحمه الله - أمراً بفصلها مع زوجها، ولم تُجْدِ الشفاعات والوسائط بإبقائه هو في العمل، وإن كانت زوجته متهمة فما ذنبه في قطع رزقه؟! ويحوّل لأيّ عمل وبأيّ مكان.
ولشدة الشيخ ناصر وحرصه، فقد باءت التّوسلات بالفشل، وهو يتردد أشهراً عديدة، ودموعه تسابق كلامه، ولكن لا مجيب ولا تغيير في الموقف.. فلما أيس جاء من رقّ على حاله، وشفع له لدى أحد المضاربين في العقار، أيام طفرته، في أيام حكم الملك خالد - رحمه الله -.
فرقّ قلب ذلك العقاريّ، لمـاّ علم بوضعه، وجعله عنده يقدّم الشاي والقهوة لضيوفه، ثم بدأ يشركه في السّعي، بنسبة قليلة في كل صفقة، عندما يبيع مع غيره، قطعة أرض، رأفة بحاله.
ومع الأيام فتح الله له باب رزق واسع، في مجال العقار، ونمت عنده الملايين وأضعافها، فكأن الشيخ ناصر بن حمد بن راشد، بتشدّده ساق لهذا الشخص - رحمهما الله - رزقاً من باب واسع، في الوقت الذي ما كان يخطر لأحد مثله، ولا في الحلم، ولكنه رزق الله إذا هيأه لإنسان فإنه لا يردّ، فقد علم حاله ورحمه.
وللحديث بقية؛؛؛