د.محمد الشويعر
ذات مرة زارني أحد الزملاء العزيزين علي، وذو مكانة عالية، وأحد العاملين السابقين معي في سلك التعليم، وجلسنا نتحدث معاً عن الأيام الماضية، وتذكّرنا ما مرّ به التعليم من عقبات ومشاكل وحلول خلال الحقبة الماضية.
ووصل بنا الحديث إلى ما قام به مشكوراً معالي وزير التعليم العالي الدكتور عزام بن محمد الدخيل وفّقه الله، من تفويض مديري التعليم بمناطق ومحافظات المملكة بصلاحية فتح فصول لتحفيظ القرآن الكريم في مدارس التعليم العام، وجزاه الله خيراً عمَّا قام به من قرار صائب ونافع.
ومن هذا المنطلق أشار علي الأخ الكريم بأن أدوّن مذكّراتي التي عشتها في سلك التعليم وأنشرها في الصحيفة، حتى يعلم العاملون في التعليم وكذلك أبناؤنا الطلاب ما كان يواجه التعليم سابقاً من عقبات ومشاكل، والتي أسفرت عن تخريج عدد كبير من الرجال الأفذاذ في العلوم الشرعية وغيرها، ولنا في هذا الكثير من النماذج من أهل العلم، ولن نذكر أسماء بالتحديد حتى لا نبخس كل ذي حقٍ حقه.
فقررت أن أنشر هذه المذكرات على أجزاء متسلسلة، حتى لا ينقطع القارئ من استرسال الحديث فيها وتكون مترابطة، وأن أستعرض جانباً من الذكريات، وأن نعيد للأذهان بعض المواقف الجميلة، والمحطات التي اكتنفت بدايات تعليم المرأة في هذه البلاد المباركة, وذلك كتجديد للعهد مع موضوع بدايات تعليم البنات في المملكة, وما مرّ به من مواقف. لذا لن أقول: إنني سوف أستوفي الموضوع حقه, ولكني أتحدث بما يتلاءم مع الجزء المخصص لي في هذه الصحيفة. وإلاّ فالمحطات في بداية تعليم البنات كثيرة، ومنها الطريف والمفيد؛ لأن كل شيء جديد في حياة الإنسان لا يتم مستقيماً من دون مواقف يميل إلى معرفتها بعض الناس.. وقد اخترت للمقال عنوان: مذكراتي... من ذاكرة تعليم البنات.
فأقول وبالله الإعانة، ومنه سبحانه نستلهم التوفيق.
قد كنا في بداية الدراسة المتوسطة بعدما تولى الملك سعود - رحمه الله - زمام الأمر، والأقلام في الصحف، والألسنة في المجالس - في أنحاء المملكة - تلح وتدعو إلى تعليم البنات، والمجتمع قد بدأت فيه مدارس أهلية وخاصة للبنات، وكتاتيب النساء، مع وجودها في كل مدينة وقرية، إلا أنها تطبق المقولة: «علموهن القراءة ولا تعلموهن الكتابة». وبعض الأسر الموسرة: مالياً وثقافياً، يريدون لبناتهم خصوصية في التعليم النّسوي، حيث رأوا نماذج ذلك في بلاد أخرى، غير بلادنا.. فكانوا بين فريقين:
فريق هيأ لبناته تدريساً خصوصياً محدوداً, يتولاه رجل متقدّم في السن، يثق به ولي أمر البنات اللواتي يريده لتدريسهن: إما لدينه أو لقرابته، أو لأنه كفيف البصر، يدرّس بناته ويصلي بعائلته التراويح في رمضان، وحصل مثل هذا في مصر، وفي بعض المدن العربية والإسلامية أيام دولة الأتراك.
والفريق الثاني: فهو من كانت له ارتباطات بأسرٍ أو عمل في الخارج مصاهرة أو تجارة أو قرابة.. فأحبّ أن يدفع بابنته أو بناته وقريباته، للتعليم في تلك الديار. حيث انتشر في تلك الأيام، إرسال الأولاد - بنين أولاً ثم البنات - للخارج لمدارس بها أقسام داخلية. كان ذلك العهد الذي تزايدت فيه المطالبة: صحافياً أو مطالبة خطية، وأيدت شفوياً لولاة الأمر. والمحافظون منهم أرسلوا عوائلهم مع أولادهم هناك: بنين وبنات، من باب الرقابة والمحافظة عليهم.
فكبرت بذلك المطالبة, وتوسعوا في المسببات والبراهين، بتعليم المرأة, حيث أصدر الملك سعود - رحمه الله - مرسوماً في عام 1379هـ، بالموافقة على تعليم البنات، وتكوين جهاز منفرد لذلك النوع من التعليم، باسم الرئاسة العامة لمدارس البنات، ثم تغيّر بعد ذلك إلى اسم الرئاسة العامة لتعليم البنات، تحت إشراف مفتي عام الديار السعودية، سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وبمشورة المشايخ والعلماء، بنظام خاص، يتّسم بالمحافظة والرقابة.
أما المنهج فلا يختلف عن منهج البنين، إلا في إدخال التربية النسوية والمواد المتعلقة بالمرأة، من تفصيل وخياطة، وتدبير منزلي، بدل المواد المتعلقة بالأولاد: كالتربية البدنية, وما له خصوصية بالأولاد، كالأشغال والرسم والتربية الفنية؛ ليكون الافتتاح الرسمي في شهر ربيع الأول عام 1380هـ، وعُيّن الرئيس العام لهذا الجهاز: الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الرشيد، الذي لم تدم مدته، حيث انتقل لمحكمة التمييز بالرياض قاضياً، ثم كلّف مكانه الشيخ: ناصر بن حمد بن راشد، الذي طالت مدّته في هذا العمل؛ لحرصه وشدة اهتمامه.
فاكتنف ذلك صعوبات ينحصر أهمها في حالتين:
الحالة الأولى: نفور كثير من الأهالي من هذا التعليم، بدعوى أنه أول باب ينفتح على فساد المرأة، في مفهوم من كان ضدّ هذا التعليم، ويذكي هذا عند العامة وقاصري الإدراك، أشخاص ينتمون للعلم والدّعوة، يجوبون الديار، ويتحدثون في المساجد؛ لتنفير الناس، وتعبئة أذهانهم عن هذا التعليم، بدعوى الحرص على أعراض بنات المسلمين؛ لينفّروهم من هذا التعليم، باسم الدين والغيرة.
الحالة الثانية: عدم توفر من يصلح للتعليم من السعوديات، حتى يسدّ بهن ولو ثغرة بسيطة، في الفصول الأولى الابتدائية للتدريس, ولبعض المواد.
وعلى هذه النقطة وفي حموة المطالبة بتعليم البنات الذي نقسّم فيه المطالبة لفريقين: مؤيّد ورافض، ولكل مبرراته التي يبني عليها وجهة نظره، وفئات من المواطنين، يتأثرون بجهلهم مع هذا، والفريق الآخر يرغبون في التعليم. فقد كان من المدرّسين لنا في تلك المرحلة المتوسطة، شيخ من مصر كبير السنّ متقاعد، فكان يخرج على لسانه بدون قصد، كلمات في مرات عديدة هي: مفهوم يا فتيات، أو ما هو السؤال يا شاطرة.. وغير ذلك. فيغيظ هذا بعض الطلبة، ويردّ بعضهم على هذا الشيخ، استنكاراً فيعتذر في كل مرة، مبرراً أنه كان في مصر يدرّس البنات، في بعض القرى والأرياف؛ لعدم توفر معلمات؛ فلهذا تأتي الكلمات على لسانه بغير شعور بحكم العادة، ويطلب المعذرة من الطلبة.
وسوف أذكر -كنماذج لا استقصاء- بقدر ما علق بالذاكرة شيئاً من المواقف التي مرّت بالتعليم النّسوي، والحلول المؤقتة التي أحوجت لها الضرورة وسمحت لها بالبروز.
ومّما أعرف في الموضوع: إما سماعاً، قبل التحاقي بالجهاز موظفاً، أو عن أشياء عاصرتها بعدما كنت واحداً من العاملين فيه، وذلك في مقال لاحق إن شاء الله.
وللحديث بقية ؛؛؛