د.محمد الشويعر
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
استكمالاً لمقالنا السابق عن الرقابة، فسأجتهد في هذا الأمر من توضيح، ونصح لما لهذا الأمر من ضرورية لازمة في هذا الأزمنة التي تمر بها مصائب وكوارث نسأل الله العافية. فالرقابة تعتبر من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ومن
الأسس المتينة التي تقي المجتمعات من الجريمة ومشاكلها وأنواعها.
وبهيمنة الرقابيين العارفين ما يدعون إليه، المدركين حقيقة ما ينهون عنه، بحكمة وموعظة حسنة، يمكن ذلك بتوفيق من الله وبالنية المخلصة، والصدق في القول والعمل، حماية للأمة من تسلط فئة نبت الشر في قلوبهم، وفقدوا هيمنة الرقابة الذاتية؛ لنقص إيمانهم، والرقابة الأسرية؛ لعدم توجيههم وقت التهيؤ الذهني، والاستعداد العقلي للقبول؛ لأن أمثال هؤلاء في المنزلة الثالثة، بحيث تردعهم السلطة، وتؤثر فيهم التوجيهات، وتخوّفهم الجزاءات الملائمة معهم.
ذلك وأن سلطة الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، يجب أن تكون مستندة على قاعدة صلبة من الإيمان، الذي يملأ النفس بحرارة اليقين، ويمدها بالشحنات الدافعة إلى العمل، كما يجب أن تدعم بالسلطة الشرعية؛ لينزجر المعاندون، ويقمع المكابرون، ويجازى المتجاوزون المصرّون؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. كما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
لقد جعل الله جل وعلا في شرائع دين الإسلام، وفي كل أمر ونهي، حكمة بالغة تنصلح بها الحياة، في كل زمان ومكان، فالزواجر والحدود التي شرعها الله، ونظّمتها تعاليم الإسلام ليست إلا وقاية للمجتمع من تسلط فئة على فئة، وحماية لأفراده وأمنه، من أصحاب النزعات الشريرة، أو الإغراءات المادية.
ولما كان الدين النصيحة والتوجيه، فإن الفرد مسؤول بأن يكون عيناً تراقب الأضرار للتنبيه عليها، والتساند مع الجهات المعنية في إنكار المنكر، والترغيب في المعروف، كما جاء في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، الدين النصية، الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) متّفق عليه.
فنصح العامة يتم بالتوعية والتنبيه، على الأخطاء برفق ولين؛ لأن الثمرة لا تتم إلاّ بهما.
أما إذا خيف اتساع النطاق، واستمراء الباطل، فيجب على الجهة المعنية أخذهم على الحق بالقوة كما جاء في الحديث الذي ساقه ابن كثير في تفسيره، ومر بنا آنفاً؛ ذلك أن رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم الذين عُرِفوا في تاريخ دولة الإسلام برجال الحسبة، وأخذ فكرتهم، وجزءً من مهماتهم، رجال الغرب، وسموهم برجال الآداب، أو بوليس الآداب، وعنهم أخذت هذه الفكرة بعض الدول العربية والإسلامية، لكن ذلك سار في درب يختلف عما عهد عند المسلمين في أعمال الحسبة، حيث عرف عنهم أعمال كثيرة منها:
- الحرص على متابعة صغائر الشر حتى لا يستفحل خطرها.
- مراقبة المكاييل والموازين، والاهتمام بالأسعار ومنع الغش.
- المحافظة على الأمن، وذلك بمتابعة الجانحين من الشباب، وتتبع أصحاب الجرائم الأخلاقية.
- منع النساء من مخالطة الرجال في الأماكن العامة، ومزاحمتهم في الأسواق.
- الاهتمام بمداخل الفتنة، والنصح والتوجيه لكل من يتجرأ على الحدود ومحارم الله.
- الاهتمام بتأمين الطرق، والقضاء على شتى صور التعدي فيها على الفرد أو الجماعة.
- منع الجار من الاعتداء على جاره، وردع القوي من التسلط على الضعيف.
وغير هذا من أعمال، كلها تدعو إلى الاهتمام بما يصلح المجتمع الإسلامي وإغلاق منافذ الشر فيه، والمفضية إلى الجريمة؛ لأن في متابعة تلك الأمور حصراً للشرور قبل حدوثها، وحجزاً بالحدود، حتى يمتنع الناس من التحايل على بعضهم، وحتى يشعر من لديه ريبة بأن هناك أعينًا يقظة، ترصد أحوال الشرور، وتتابع المنتمين إليها؛ لتقضي عليها قبل بروزها، مما يجعل للمجتمع شخصية آمرة، ولرجال الحسبة الذين هم عين المجتمع مهابة وردعا لما يجب أن يتصفوا به من علم وحسن سيرة وسلوك، ومعالجة للأمور الظاهرة أمامهم بحكمة ولين، وعلم حقيقي لمقتضيات التشريع الإسلامي، حتى يكون الآمر والناهي عالمًا بما يأمر به، عالمًا فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهي عنه، وأن يتهيأ لذلك البيئة الصالحة، والظروف الطيبة؛ لأن رجال الحسبة عليهم دور مهم، في الاضطلاع بالمحافظة على الدين، الذي هو قوام المجتمع، والمصلح لما فيه من إعوجاج، حفاظاً عن التعدي على الحرمات؛ لما في ذلك من حصانة للإسلام وسلامة لأهله.
وهذا من حماية المجتمع عن كل عمل يجر إلى الجريمة؛ لأن معظم النار من مستصغر الشرر، والسكوت عن الصغائر يجعلها تستشري وتكبر، وسدّ الذرائع مما يوصي به كثير من الفقهاء رحمهم الله، مخافة اتساع النطاق، والإفضاء إلى ما هو أشمل وأكبر، حيث يرى الأصوليون بأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.