د.محمد الشويعر
أواصل في هذا استعراض المقال بعض الذكريات المتعلقة بالمحطات التي مرت بها مسيرة تعليم البنات في المملكة, وقد تحدثنا في مقال سابق عن طبيعة استقبال الناس لهذا النوع من التعليم وكيف انقسموا إزاءه بين مؤيد ومعارض.
وفي هذا المـقال سوف نقف على بعض المواقف التي مر بها التعليم النسوي, إضافة إلى نماذج من الحلول التي تم اتخاذها لتجاوز تلك المواقف, وذلك كله فيما يلي:
1-فمن نفور الأهالي عن هذا التعليم الطارئ؛ لأنّ من جهل شيئاً أنكره، فقد كان هناك أفراد يحذّرون من تعليم المرأة في المجالس وخطب الجمعة, ويجسّمون الأمور أمام الأهالي من باب التنفير، علاوة على ما ذكرنا عن أفراد يتجولون في البلاد، يحذّرون بحماسة وانفعال من تعليم البنات، وما وراءه من مفاسد بالغوا في تجسيمها لغاية غير معروفة، وقد يكون عن تعصب وتشديد، أو جهل وضيق أفق، بل زادوا في التجسيم والإنكار، أمام جمهور بفطرته المتدينة، وهؤلاء - سامحهم الله - بالغوا وألهبوا المشاعر بافتراضات لا وجود لها، وباسم الغيرة على الدين والمحارم، فاستقبل بعض المواطنين الفعل بردّ فعل معاكس.
برز هذا في بعض المدن، عندما قررت الرئاسة فتح مدارس عندهم مثل: بريدة, الزلفي، وادي الدواسر, وغيرها.
والغريب في الأمر أن هؤلاء المحذّرين من تعليم البنات، بادروا فيما بعد بإدخال بناتهم المدارس، بعدما رأوا المحافظة على الطالبات، وتخصيص حافلات لنقلهنّ يومياً من بيوتهن إلى المدارس، وبالعكس، ومنهم من حاول التّوظف في نفس الجهاز.
- فعندما ذهب المندوبون لفتح المدارس، من أجل تهيئة الجوّ، وترغيب الأهالي في التعليم وتعزيز ذلك، بلقاء القاضي، والأمير وبعض الشخصيات المعتبرة في كل بلد ستفتح فيه المدرسة، ومن ثم التحدث في الجوامع بشرح الأمر بدءاً بالموافقة الملكية، وإشراف مفتي الديار السعودية، وتأيـيد العلماء على تعليم المرأة، والترتيبات التي وضعت، والمواد التي تدرّس، وما في ذلك من فوائد ومصالح شرعية، وفق ما رآه المشايخ من تنظيم وعمل، يكفل الستر والحشمة للبنات، وفق الشريعة الإسلامية عن الله وعن رسوله وآراء العلماء، لكن الجهلة والغوغائيين قاطعوهم، ولم يتيحوا لهم الحديث أو النقاش، بل أسكتوهم وهاجموهم وسبوّهم بعبارات لا تليق، ممّا فتح مجالاً للفوضى، ومن ثم الشروع في التّعدي، كيفما يحلو لكل منهم، فرموا السيارات التي بعثـتها الرئاسة لنقل الطالبات بالحجارة: تكسيراً وإيذاء، وأحدثوا ضجّة في المساجد والطرقات، واتجّه بعضهم إلى المندوبين الذين جاؤوا لهذه المهمة، ومن ثمّ استئجار المباني وتأثيثها؛ لينالوا منهم، ولم يكن أمامهم إلا التفكير بالنجاة بأنفسهم والعودة للرياض؛ ليرضَوْا من الغنيمة بالإياب، ولم تستطع الجهات الأمنية وغيرها حمايتهم.
نموذج ذلك أن أحدهم هو: ع. ح. كانت مهمته في الزلفي، فطارده الغوغائيون من المسجد وكفّروه، وفرّ منهم، وأمسكوا بمشلحه فنازعهم إياه ومزّقوه، واحتمى ببيت الأمير القريب منه، ولحقوا به فخاف منهم؛ لأنهم دخلوا عليه في بيت الأمير، والتجأ إلى عائلة الأمير، حتى ينجو من شرهم، فدّبر له الأمير سيارة تنقله، من الباب الخلفي إلى الرياض بأقصى سرعة وبخفية.
- وحصل شبيه بهذا في وادي الدواسر، مع المندوب م. ص. ففرّ من ملاحقة الغوغائيين من الأهالي، المتأثرين من كلمات أولئك الذين يجوبون الديار، تحذيراً من تعليم البنات، وما وراءه - في مفهومهم - من شرور وآفات، جاؤوا ناصحين ومحذرين الناس منها.
-وبريدة جاء وفد منهم لمقابلة ولي العهد الأمير فيصل رحمه الله، ومقابلة المشايخ طالبين منهم مساعدتهم بمنع تعليم البنات، جاء هذا الوفد المكوّن من ستمائة شخص، وخيّموا في حي الشفاء غرب الرياض، فرفض رحمه الله مقابلتهم بهذا العدد، وأن عليهم اختيار ثلاثة أشخاص منهم فقط؛ لعرض ما لديهم والبقية يعودون من حيث جاؤوا.
فقال رحمه الله لهذا الوفد المختصر، بعدما كلّموه في المعارضة لتعليم البنات : المدارس ستفتح لمن يرغبها، ولدينا برقيات ومكاتبات أكثر منكم، يرغبون في هذه المدارس، وأنتم غير ملزمين بإدخال بناتكم في هذه المدارس، والمسألة اختياريّة لا إلزامية، ومن أراد التّعرض والوقوف ضدّ المدارس، فعندنا جزاؤه ولا تراجُع في الأمر.
وعلى هامش تجمعات وفد أهل بريدة، فإن مما يلفت النظر أن شخصاً في العشرينات من عمره، من إحدى القرى بالقصيم - وهو نموذج فقط - كان ابن عمه يعمل موظفاً بالرئاسة، وقد هجروه ولم يسلّموا عليه، وكان ابن عمه هذا منهم، ولما عادوا دون مقابلة، تخلّف هذا الشخص في الرياض، التي جاءها لأول مرة، ولم يجد سكناً يأوي إليه، بعدما رجع الوفد الكبير من حيث أتى، فلجأ لابن عمه الموظف بتعليم البنات فسكن عنده.
ثم قال له: ابحث لي عن عمل ؟ فقال: نجد لك عندنا في تعليم البنات فرّاش، فوافق وباشر عمله، رغم أنه جاء للرياض منكراً لتعليم البنات، فإذا به يعمل موظفاً فيها، فلما سئل فيما بعد: كيف جئت مع هذا الوفد ضدّ مدارس البنات؟ قال : قيل لي تعال، فجئت، ولم أعرف لماذا جاؤوا.
ومما لوحظ في ذلك الوفد البالغ 600 فرد، أو يزيدون أن ¾ أرباعهم، شباب لم يتزوّجوا، وجزء من البقيّة، لا بنات لهم في سنّ الدراسة، وإنما هي مخالفة لتقال عنهم هذه النزعة تأثراً بالمغرضين والجاهلين.
2- أما النوع الثاني: الراغبون في تعليم بناتهم، فإن لبعضهم مع الرئاسة مواقف من نماذجها:
-في أول سنة كما قيل لي من عام التأسيس، صاروا يتلقّفون أيّ مؤهل ليُسدّ بهن الفراغ في التدريس، فلم يجدوا إلاّ زوجات العاملين بالمملكة: بالمتوسط والابتدائي، أماّ الثانوي فقليل، بل نادر, ناهيك بالمؤهل التربوي: فهو معدوم, وبدون تخصصات تربوية أو خدمات، بل التوظيف بصورة المؤهل فقط، وبدون التصديقات المتبّعة في الشهادة.
واغتنم غير السعوديين، بتخطّي التعليمات، وتوظيف زوجاتهم، بعضهن بمؤهل مزوّر، وبعضهن بتعهد أن يحضروا المؤهل في السنة القادمة من بلادهم.
بدليل أن المؤهل الواحد قد يتوظّف به أكثر من واحدة، نموذج ذلك معلمة من الأردن، تعيّنت بصورة مؤهل باسم سحر، وتعينت أخرى بهذا المؤهل باسم (سمر) الأولى بالحاء والثانية بالميم، ومضتا في العمل أكثر من سنة، وبذكاء وفطنة أحد الموظفين، أدرك أن الشهادة واحدة، استخدمت لاثنتين، بدليل انطباق جميع المعلومات والدرجات، وتاريخ الولادة وكل شيء يتعلّق بالطالبة.
وبطلب أصل المؤهل للمطابقة؛ لأنّه لم يُقَدّم أصلاً، وكان فيه تساهل لقلة المعلمات فيكتفى بالصورة، وبدون توثيق أو معادلة، فقد رفضوا بحجّة أن الأصل في داخل إسرائيل تحت الاحتلال، ولماّ كان المصدر للمؤهل من إحدى ثانويات عمان بالأردن، فقد خوّفوا هذا الموظف بالشكوى للملك فيصل رحمه الله: محركيّن إثارة النّعرات وقضية فلسطين، برسالة مطولة ضد هذا الموظف.. نالوا منه كثيراً، ومن اتجاهاته الحزبيّة، في الوقت التي لم تعرف فيه هذه النعرة، ثم ختموا تلك الرسالة المطوّلة باستعطاف من جلالته وترحّم, فجاء استفسار من جلالته رحمه الله للشيخ ناصر بن حمد بن راشد، الرئيس العام للاطلاع والإفادة، وكان هذا بعدما تولى فيصل الملك.
ولما كان ذلك الموظف قد استفاد من أحد المصريين، الذي عمل في التعليم ببلاده طويلاً، ولديه خبرة في التزوير، فأخبره بأنهم في مصر يكشفون التزوير وتعديل الاسم بماء البصل، يعصر ويجمع في زجاجة قطرة العين، وينقّط منه واحدة فقط، على الاسم المشكوك في تعديله، ثم تنظر الشهادة مقلوبة موجهة للشمس فيبين التزوير.
حرر ذلك الموظف جواباً مفصلاً للملك فيصل رحمه الله، بتوقيع الشيخ ناصر, فجاء الجواب مؤيداً لطلب أصل الشهادة، وإن تعذر فتُفصلان من العمل.. وقد تم ذلك.. ولهذا نماذج عديدة يطول شرحها وتعدادها.
وسنواصل في المقالات القادمة إن شاء الله استعراض الذاكرة لمزيد من المواقف والحلول المتعلقة بالتعليم النسوي في المملكة.
وللحديث بقية ..