د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لا أظن أحداً منا - نحن أبناء هذا المجتمع العربي الإسلامي - يجهل فضل الشيوخ وقدرهم.. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الكبار قد لا ينظرون إلى أنفسهم من الزاوية نفسها - لا سيّما الشعراء.. فهم عندما يذكرون شيخوختهم لا يجري على ألسنتهم إلا الشكوى من ظهور الشيب كعلامة على الكِبَر،
ومن ثَمّ الضعف وصدود الغانيات والأمراض والتحسّر على عهد الشباب.. وقد أعجبني في هذا السياق مقال للأستاذ عبد الله الجعيثن (صحيفة الرياض في 20-1-2014) عن بعض المسنّين المتصابين الذين يريدون أن يكونوا كالشباب، ويصدّقون أنفسهم فيتزوج ابن السبعين فتاة العشرين، وعن البعض الآخر الذي ينهار في شيخوخته لأن روحه انهارت قبل جسده وفقد معنوياته.. ويرى الجعيثن أن المسنّ العاقل يتعايش مع وضعه بمحبّة وقبول وتفاؤل ويمارس حياته بشكل عاديٌ، ويستبدل الشكوى بطاعة الله والعمل على تقوية جسده وصيانة صحته بالسبل الممكنة والصحبة الطيبة وعمل الخير والتفاؤل بالحياة.. وكأني بكاتبنا الاجتماعي المثقف وقد تحالف مع الفيلسوف الألماني المعاصر (فيلهلم شميد) على تهدئة خواطر القلقين من تقدّم العمر.. وكان هذا الفيلسوف - الذي يركز في أعماله الفلسفية على ما يسمّيه (فنّ الحياة) - قد ألّف خلال عام 2014 كتاباً سمّاه: (الهدوء: ما نكسبه عندما نصبح كباراً). والكبار في الغرب يحتاجون أكثر من الشرقيين إلى مثل هذه التهدئة، لأن أشدّ ما يقلقهم هو الشعور بالعزلة والفراغ الذي أهم أسبابه فقدان التواصل العائلي والقيمة الاجتماعية (وليس الإنسانية فحقوقهم المدنية مكفولة قانوناً). ويظهر لي أن من المفيد أن أطلع القارئ على ما طرحه هذا الفيلسوف من أفكار وتأمّلات.. فهو بداية يشبّه مراحل العمر بفترات اليوم.. فالصباح الذي يشعر المرء فيه بالانتشاء والنشاط واتساع باقي اليوم للعمل الكثير يشبه مرحلة العمر الأولى من الولادة حتى 25 سنة، بما تتميّز به من حركة ونشاط وإقبال على الدنيا الحافلة بالإمكانيات.. أما فترة الظهر بما يصاحبها من تباطؤ وتركيز على إنهاء التزاماته فتشبه مرحلة العمر الثانية المنتهية بسنّ الخمسين، حيث يكون المرء اتخذ خياراته والمستقبل لم يعد مفتوح الأفق، فهو يصبح واقعياً ويركز على ما يستطيع عمله وماذا عليه أن يحقق في المجال المهني والعائلي.. وأما فترة ما بعد العصر التي تتميز بالرغبة في (التشطيب)، والتهيّؤ للراحة والاستمتاع بما بقي من اليوم، فإنها تشبه المرحلة الثالثة من العمر المنتهية بسنّ 75 سنة.. وهو هنا لا يزال محتفظاً بنشاطه ومرتاحاً لما أنجز، ولكنه يرى إمكاناته وقدراته تتضاءل، وعليه أن ينجز ما تبقى من مهام، وقد أصبح ذا خبرة واسعة، لم يعد يمرّ عليه شيء جديد، ويودّ أن يضع خبرته في خدمة الآخرين. شيء من الملل بدأ يعتريه،وعلامات التقدم في السن يلاحظها في ظهور الشيب وتغضن الجلد.. وقد بدأ التمسّك بما يألفه من عادات وعلاقات اجتماعيه، وكثُرت كلمات التشجيع حول شبابه وأناقته وذاكرته، وذكريات الماضي صارت أكثر ظهوراً ووضوحاً.. أما فترة المساء حيث السكون وقضاء الوقت في ما هو مريح مع العائلة أو الأصحاب، فإنها تشبه آخر العمر الذي يتصف بمحدودية الحركة وضعف الحواس ووظائف الجسم الأخرى والاعتماد على الآخرين مع التقدم في السن.
لا شك أن أعراض الشيخوخة - بعد الستين - تكون مقلقة، إذا قابلها المرء بالخوف من النهاية والتذمر من مشكلاتها.. إلا أن تقبّل المرء لشيخوخته والعيش بها في هدوء - كما يرى الفيلسوف - إذا اتبع الخطوات التالية:
أولاً - عدم محاولة بدء حياة جديدة، بل التمسك بالمعتاد المألوف، حيث إن القيام به لا يحتاج إلى قوة تُبذل ولا إشغال للذهن .
ثانياً - الاستمتاع بما هو متاح لك من أشياء جميلة طالما أعجبتك، مثل: قهوة الصباح، الموسيقى، النزهات أو العناية بحديقة المنزل، الاندماج مع الرفاق في أحاديثهم ونكاتهم، استعادة الذكريات القديمة، العلاقة الحميمة مع الزوجة.
ثالثاً - مع تقدّم العمر تصبح الصحة هي الشغل الشاغل: أوجاع في المفاصل، ثورة النفس عند بذل مجهود، تخلخل الأسنان، مشكلات التبوّل بسبب البروستاتا وغير ذلك.. لكن الشكوى والتذمّر لا يجديان؛ ما يجدي هو تقوية القدرة على تقبّلها والتعايش معها، دون تجاهلها أو إهمال علاجها.. وأما بالنسبة للمصائب مثل المرض أو فقدان الأحبة أو خيبات الأمل الكبيرة فإن مقابلتها بالهدوء ممكنة، إذا نُظر إليها على أنها اختبار يجب اجتيازه - وعسى أن يكره المرء شيئاً وفيه خيرٌ له أو لغيره.. وبعض الهموم قد تؤدي إلى أعراض (المناخوليا) - وهي شيء من الاكتئاب الحافل بالأفكار والأحاسيس، على عكس مرض الاكتئاب المعروف بجموده.
رابعاً - فعل ما يجلب الإحساس بالقرب من الناس ومن الطبيعة، إما جسمانياً مثل السلام بالمصافحة والعناق أو تقارب الأجساد (كما في انتظام الصفوف أو ركوب وسائل المواصلات العامة)، أو نفسياً بإظهار العاطفة من خلال الإنصات ونظرات العيون والابتسام، أو عقلياً مثل مطالعة الكتب والصحف والمشاركة في المناقشات.
خامساً - موالاة الوصل مع الأحباء - خصوصاً الأولاد الذين يرمزون للكبار باستمرارية الحياة، ويقرّبون لهم فهم التقنيات الحديثة، وهم في النهاية سندهم عندما يكبرون.. ثُمّ الأحفاد الذين يسعدون بعطف أجدادهم وسماع حكاياتهم، ويمثّلون بالنسبة لهم طرف الحلقة التي تربط بين حياة مقبلة وحياة مدبرة.. وكذلك الإخوة يشكّلون رابطاً مهماً في شبكة العلاقات مع الأحبة، فهم عاشوا في بيت واحد متآلفين يتقاسمون الذكريات ويفهم بعضهم بعضاً.. لكن الهدوء الأعمق تجلبه العلاقة التي يسودها حبّ دائم مع رفيق العمر الذي يشاركه حياته في السرّاء والضرّاء.. وللصداقة شأن كبير، حيث يشعر المسنّ بالألفة والارتياح مع الصديق الذي كسبه والذي يلتقي به من وقت لآخر ليتبادل معه الأحاديث والذي يشاركه الهموم والاهتمامات بلا كلفة وبدون انزعاج.
سادساً - مما يبعث على البِشْر في السنّ المتقدم أن يعود الإنسان إلى ماضيه ليكشف بنفسه الحكمة والمعاني فيما قام به من فعاليات جسمانية أو نفسية أو عقليه في محاولة لفهمها في ضوء السياق الذي تمّت فيه آنذاك والذي يختلف عنه الآن.
سابعاً - فهم الموت على أنه حدٌّ للحياة يعطي للحياة معناها وقيمتها - ككلّ شيء له حدود - ويحفز على الاستعداد للموت بالعمل الطيب وبكل ما هو لازم من وصايا وقرارات.. وكذلك فهم الموت بأنه ضروري للحياة؛ إذ إن موت الفرد يترك مكاناً لحياة جديدة بقوى نشيطة.. ولا يعني فهم الموت طرد القلق بشأنه، بل الاعتياد على حقيقة أنه قادم، وتصّور كيفية قضاء الأيام الأخيرة مع العائلة وممارسة الحياة كالمعتاد.. وأخيراً فهم الموت على أنه البوابة التي تفضي إلى عالم فسيح آخر - (ومفهوم المؤلف فلسفي وليس دينياً).. ويُلاحظ القارئ أن عدداً من الخطوات التي اقترحها الفيلسوف هي بالنسبة لنا معروفة ومغروسة في ثقافتنا منذ مئات السنين.