د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
مليونا إثر مليون... وعاما بعد عام - يتوافد الحجاج من جميع بقاع الأرض ومن كل فج عميق، إلى بقعة صغيرة مباركة بين حدود مكة وحدود عرفات، ليؤدوا في ضيافة ربهم الواحد الأحد الفرد الصمد مناسك حجهم.
.. يتوافدون على موعد مع الرحمن -جل جلاله- ليجتمعوا في مكان محدود وفى أيام معدودات، متآخين كأنهم على قلب رجل واحد، وغير منشغلين بشيء إلّا بالتضرع إلى ربهم وعبادته في بيته الطاهر. تراهم ركّعاً سجّداً سيماهم في وجوههم من أثر الخشوع، وفى لباسهم وسكناهم من أثر الانشغال عن الدنيا والرجاء في المغفرة، وفى احتشادهم لرجم الشيطان. لا تتبيّن بينهم اختلافاً وفُرقة - لا في المذهب ولا في الطائفة ولا في أي انتماءات أخرى، فلولا ملامح وجوههم واختلاف لهجاتهم لما ميّزت منهم الصيني من الأفريقي من العربي. ذلك أنه على الرغم من اختلاف اللهجة والملامح فإن العقيدة واحدة، والقبلة التي يتجهون إليها واحدة، ومناسك حجهم واحدة، يمارسونها جميعها دون أن تفصل بينهم مذاهب أو طوائف أو شيع وأحزاب. هذا هو الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام، وأكبر مؤتمر للمسلمين. هو بالفعل مؤتمر يمثل المسلمين في جميع أصقاع العالم. إذ يأتي من كل بلد حجاج منهم الشيوخ والشباب، ومنهم الرجال والنساء، ومنهم الفقراء والأغنياء، ومنهم أصحاب المهن المختلفة. لو جمعنا عدد أعضاء برلمانات الدول الإسلامية والدول التي بها مسلمون، لما بلغ عددهم واحداً في المائة من عدد الحجاج. إلا أن الحجاج لا يمثّلون أحزاباً ولا طوائف، ولا يناقشون سياسات أو ميزانيات أو برامج، وإنما يمثّلون النفوس المتشوقة للسلام والتعايش، التي لا تسجد إلّا لله، ولا تتوسل إلى أحد غير الله. لكنهم مع ذلك -أو بالرغم من ذلك- لا يعكسون صورة مجتمعات الأقطار التي أتوا منها. هناك في كثير من أقطارهم مسلمون يحاربون مسلمين أو يتسلطون عليهم أو يقصونهم أو يكرهونهم، وفى أقطار أخرى أقليات من المسلمين المستضعفين الذين يحتاجون لمن يعاونهم ويقف بجانبهم في شدّتهم. فالسلام الذي يجده الحجاج في مكة لا يجده الكثير منهم في بلادهم، ولا ينعمون كذلك بالتعايش الذي ينعمون به في مكة، والوحدة التي يرونها ويمارسونها في هذه البقعة الطاهرة يفتقدها الكثير منهم في بلادهم. ولا جدال في أن ما تقوم به حكومة المملكة وملوكها خدّام الحرمين الشريفين من إعمار وتوسعة، وما تقدمه من خدمات في الصحة والمرافق العامة، وما توفره من أمن ونظام، وما تسخره من أجل ذلك من موارد مالية وتقنية وبشرية، فإنه قد هيّأ للحجاج أن يؤدوا مناسك الحج بيسر وسهولة، وأن ينعموا بالسلام والتعايش والوحدة التي تحققها روحانية المناسبة وقدسية المكانوكان الحرص بالغاً أقصى مداه من أجل هذا الهدف، والحساسية شديدة تجاه أيّ أذىً يصيب الحجاج -حتى لو كان محدوداً- كما حصل مثلاً في حادثة سقوط رافعة الحرم. فلا غرابة أن باشر الملك سلمان بنفسه متابعة الحادث المؤسف، وبادر بمواساة ذوي الشهداء وكل من أصابته إعاقة من جراء الحادث، وكذلك المصابين الآخرين، وأمر بصرف تعويضات مجزية لهم. وقام بزيارة المصابين في المستشفى، مما كان له صدى محمودا ظهر في تغريدات كثيرة - من بينها تغريدات من مواطنين إيرانيين. وعلى أيّ حال فإن تاريخ الحج كله منذ شرعه الله ركناً من أركان الإسلام أظهر عزم المسلمين على أداء هذه الفريضة والظفر بضيافة الرحمن، مهما واجهوا من صعاب ومشقّة أو أخطار صحية أو أمنية من حين سفرهم إلى حين عودتهم. وإذا كانت وسائل المواصلات الحديثة من جهة، وجزالة الخدمات والإمكانات التي توفرها حكومة المملكة قد يسّرت حصول الحجاج على بغيتهم، فإن أعدادهم تتزايد. ففي هذا العام تجاوز العدد المليونين على الرغم من خفض العدد بسبب أعمال التوسعة، وفى العام القادم قد تتجاوز ثلاثة ملايين، وفى كل عام يكون العدد أكبر. لذلك فإن الحاج لا يزال وسيظلّ يكابد بعض المشقة، مثل تكاليف السفر والتجهز للحج والانتظار الطويل في بلده -ربما لسنوات- حتى يصل إليه الدور في فرصة الحج، ثمّ الزحام الشديد في أماكن أداء المناسك، لكن ذلك كله لن يغيّر شيئاً مما سيجده الحجاج في مكة والمشاعر المقدسة من السلام والتعايش والوحدة الإسلامية. إن كان هذا هو ما يجده الحجاج الذين يمثّلون جميع الدول والشعوب والجاليات الإسلامية في أيام قليلة وعلى مساحة أميال مربعة قليلة، فلماذا لا ينقلون مشاعرهم إلى البلدان وبين البلدان التي تفتقر لمثل ذلك، ويحوّلونها إلى واقع ملموس هناك، هل لأنهم ينسون؟ ليس لهذا السبب. بل لأن نمط حياتهم في مكة بعيد بُعْد المشرقين عن نمط الحياة في تلك الديار. في مكة يعيشون في روحانية الدين التي تصلهم بالله من دون وسيط، وهم وحدهم مع الله من دون رقيب أو متسلط. أما في البلاد التي غاب عنها السلام والاستقرار أو التعايش والوحدة، فإن الدين قد اختطفه بعض أصحاب الأهواء، ووجهوه ليس إلى الله بل إلى تبرير أهوائهم ومصالحهم الطائفية أو العنصرية أو السلطوية، وصنفوا الناس حسب هُويّاتهم وفرّقوهم شيعاً وأحزاباً، يوزّعون ولاءاتهم عليها ويتترّسون بها، فعزّ اللقاء وعزّ التعايش وعزّ السلام وعزّتلوحدة، ولكن يبقى الحج رمزاً ثابتاً شامخاً يذكّر المسلمين بالسلام والتعايش والوحدة. وما أجمل خطبة يوم عرفه حينما تذكّرهم بذلك أيضا، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.