د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الروائيّ وشاعر الاستعمار البريطاني (روديارد كيبلنج - 1865-1936) هو الذي أطلق مقولته المشهورة: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. كان ذلك قبل مائة وعشرين عامًا، والاستعمار البريطاني لا يزال على قمة سطوته.
ولكن حتى بعد ذلك تردّد الحديث كثيرًا بأقلام مفكرين في الشرق والغرب عن صراع الحضارات أو تباعدها على الأقل والعوامل المؤثرة المحدثة لهذا الصراع الذي يغلب عليه الطابع الثقافي، ولكن يستتر خلفه مؤثرات عرقية أو سياسية أو دينية أو اقتصادية. فكرة الصراع قائمة - فيما يظهر- على إدراك عمق الاختلافات بين الشرق والغرب في تلك المؤثرات بعضها أو كلها ولكن بالتأكيد ليس في مؤثر منفرد. وقد كاد يقنعني هذا التصور للفكرة واسترجاع الذهن لما سلف من تاريخ الحروب والصراعات بين الشرق والغرب بأن تصالح الحضارات غير ممكن. حتى وصلت إلى عاصمة الدولة العثمانية اسطنبول، الواقعة على ضفاف مضيق البوسفور الذي يصل بين بحر مرمرة والبحر الأسود، ويفصل بين جزءيها الآسيوي والأوروبي. وهي أكبر المدن التركية؛ إِذ يبلغ سكانها حوالي 15 مليون نسمة (أي 20 في المائة من سكان تركيا). في هذه المدينة الضخمة يشاهد المرء شيئًا من الشرق وشيئًا من الغرب يوحيان بأن الالتقاء الحضاري بينهما ممكن، وأن ذلك ليس من وحي الوضع الجغرافي لهذه المدينة فحسب - فإن دوره لا يزيد عن دور مكان الاجتماع بين فريقين متنازعين- بل مما رأيته من معالم النهضة التركية الاقتصادية والصناعية، ومظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية. كان الشعور الذي يخالجني في أثناء إقامتي سائحًا في اسطنبول أن الشعب التركي جدير بأن يحقق المركز الحضاري الذي يؤهله لأن يكون ندًا للغرب ونموذجًا للشرق (وبالذات الشرق الإسلامي الذي يشاركه في التاريخ الحضاري). ولم يكن هذا شعور انبهارا ممّن تطأ قدمه اسطنبول لأول مرة، بل هو استقراء لما لحظته من إمارات ظاهرة. أولها المظاهر السياحية الخلابة الطبيعية والتاريخية، وما أكثرها في اسطنبول! مضيق البوسفور الذي تتربع المدينة على ضفافه الآسيوية والأوروبية، والخليج المتفرع منه كأنه قرن ثور والمسمى (القرن الذهبي - الذهبي لأن البيزنطيين دفنوا أموالهم وذهبهم في الخليج لإخفائها عن محمد الفاتح الذي استولى على القسطنطينية)، وهو يخترق القسم الأوروبي، فيقع على يمينه الجزء الأعظم من اسطنبول وعلى يساره الجزء العثماني، أي ذلك الجزء الذي يضم أهم الآثار الحضارية العثمانية، وهي: قصر الباب العالي (topkapi) الذي كان يدير من داخله سلاطين الدولة العثمانية أمور إمبراطوريتهم، الذي لا أشك في أنهم اختاروا موقعه بعناية، فهو يطل على منطقة اجتمع فيها كل من مضيق البوسفور وخلج القرن الذهبي وبحر مرمرة. وعندما ينظر المرء إلى مجمع هذه البحار فإن نظرته تغرق في زرقة مياهها الساحرة، وينشرح صدره للهواء المنعش الذي يهبّ من جهتها، ولا بد أن السلاطين ينعمون بالحياة وسط هذه البيئة الجميلة - وخصوصًا بعد العودة من الغزو. والمعلم الحضاري الآخر المجاور لقصر السلطنة هو ما يسمّى الآن (منذ عام 1935) متحف أيا صوفيا، الذي كان كنيسة بناها البيزنطينيون في القرن السابع بعد الميلاد، وبقيت كذلك حتى عام 1453 حين حوله السلطان محمد الفاتح إلى مسجد يتزيّن حتى الآن بمعالمه وزخارفه الإسلامية. وقريبًا منه المسجد الأزرق الذي بناه السلطان أحمد في القرن السابع عشر ذو الطراز الفريد بقبته الضخمة الواسعة بقدر سعة بطن المسجد والمزخرفة بالزجاج الملوّن، وبمناراته الست وبالغلالة الخفيفة من اللون الأزرق التي يشكّلها الرخام الذي يكسو جدران المسجد. ويظهر أن كل سلطان حريص على أن يترك أثرًا فخمًا يخلّد ذكره - وخصوصًا من المساجد والقصور التي تتشابه في التصميم وبنيت في أنحاء متفرقة في المدينة. ولا يمكن حصر ما تحويه اسطنبول من المعالم التاريخية من مساجد وقصور وكنائس ومتاحف، ولا حصر المعالم الطبيعية الجميلة داخل المدينة أو ما حولها من حدائق وشواطئ وتلال تكسوها الغابات ونحوها. لكن الحديث عن المعالم السياحية التاريخية والطبيعية كإمارة من إمارات النهضة التركية يبرّره ما يلي:
أولاً أن الدولة التركية (وهي تشمل الأجهزة الحكومية والأهلية) أبلت بلاءً حسنًا في إدارة وتنظيم القطاع السياحي. فالمعلومات متوفرة عن كل موقع سياحي، والوصول إليها منظم لا يخربه فوضى أو تلاعب، ومكاتب تنظيم الرحلات السياحية متوافرة. صحيح - كما في أي بلد سياحي- أن ما يجده السائح في المواقع المعلن عنها يقل بنسبة تتراوح حول 20 في المائة عمّا توقعه حسب الوعود المعطاة (ربما باستثناء بعض المعالم التاريخية المشهورة)، إلا أنها نسبة مقبولة، فالدعاية دائمًا تطنب لكي تجذب. إن حسن التنظيم والإدارة هو في حد ذاته مظهر حضاري يجب التنويه به، وبالقدرة على استغلال ثروة سياحية هائلة (في تركيا تسهم السياحة بنسبة 27 في المائة من الدخل القومي). وثانيًا: إن المعالم السياحية والآثار التاريخية هي جزء من حضارة أي شعب مهما بعدت في الزمن وتظل متصلة بحاضره ما دامت ثقافته حيّة.
الإمارة الثانية الدالّة على قدرة الشعب التركي على تحقيق مركز حضاري متقدم تتمثل في معالم النهضة الصناعية والاقتصادية البادية للعيان. في جولة بالمراكز والشوارع التجارية لا بد أن تجد منتجات تركية أصيلة. صحيح أن تركيا معروفة بصناعة الملابس والسجاد والأحذية والأثاث والمنتجات الغذائية. ولكنك ستجد أيضًا منتجات التقنية الحديثة - لا سيما الأجهزة الكهربائية المنزلية بجميع أصنافها، وقد رأيت من الماركات التركية أكثر من الماركات الأجنبية. هذا إلى جانب ما نقرأ عنه في الكتيّبات المعرّفة بتركيا من وجود صناعة السيارات (بشكل محدود) وصناعة السفن وصناعة الحديد والصلب وصناعة المعدات؛ بل هي تصدر شيئًا من هذه المنتجات. توافر خدمات المرافق العامة وتوافر البضائع والمنتجات الغذائية في الأسواق وتوافر أماكن الترفيه العام والحدائق والمساحات المزروعة والعناية بها وحمايتها، وازدحام المدينة بأنواع السيارات - وخصوصًا صغيرة الحجم التي تلائم شوارع اسطنبول القديمة الضيقة والملتوية الصاعدة والمنحدرة- وبدون رؤية سيارات متهالكة ظاهرة العيوب في إضاءتها أو هيكلها أو انبعاثاتها الكربونية! (بالمناسبة سعر لتر البنزين يبلغ حوالي تسعة أضعاف سعره في الرياض!)؛ كل ذلك يوحى بحيوية تنموية وقدرة على الرقيّ، علمًا أن متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي في تركيا وصل إلى عشرين ألف دولار بالأسعار الثابتة أو عشرة آلاف دولار بالأسعار الجارية (القوة الشرائية).
أما الإمارة الثالثة فتتعلق بالعنصر البشري - وللحديث صلة.