د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
السجع في العنوان مقصود، لكن ليس لذاته، وإنما لإبراز المفارقة بأنه حتى العقل (المدرك) الذي يتميّز بفهمه وعلمه ونضجه يقف مرتبكاً أمام ما يراه من فتاوى وآراء تصدر من علماء أجلاء أو جهات علمية معتبرة في أمور تنظّم حياة الناس الدنيوية،
في عصر غلبت عليه ظروف ومادّيات مستجدة حتى غيّرت صورته عما سبقه من عصور، دون أن يؤخذ في الحسبان تلك التغيرات. هذا بينما نحتاج نحن إلى الاستعانة بالمأثور الديني في التعامل معها بالفهم والتحليل واستجلاء المعاني في ضوء ما يحقق المقاصد الشرعية والمصلحة العامة. فإذا جاءت الفتاوى والآراء بشأن وقائع أو قضايا تمس حياة الناس وتتغيّر مع تغيّر الظروف الزمنية والمصالح والمجتمعات - مبنيّة فقط على النقل المجرد أو ظاهر النص أو العادة - دون اعتبار لهذه التغيّرات، فإنها تربك صاحب القلب المؤمن والعقل المدرك، وتجعله حائراً بين أن يأخذ بالحكم المتضَمَّن في الفتوى أو الرأي الذي سمعه أو قرأه - إجلالا لمن قاله، أو أن يحكّم عقله في إدراك علّة ذلك الحكم وظروف صدوره عن الأصل، ويوازن بين المعاني الأكثر انطباقاً على الواقع الراهن والأكثر تحقيقاً لمصلحة عامة أو درءاً لمفسدة عامة؛ ولا سيّما أن المعاني تُستنبط كما يفهمها الباحث عنها.
ونظراً لاختلاف البشر فإنَّ المفاهيم قابلة للاختلاف. ويبرز الاختلاف - مثلاً - عندما تتأثر موضوعية الحكم على مسألة من المسائل بإسقاط التجربة الشخصية لمن يفتي أو يبدي الرأي فيعمّم الحكم على الآخرين. فعندما يقرّر أحد العلماء في الجواب على سؤال أن التأمين الطبي حرام، وينصح السائل بتركه قائلاً: (طول أعمارنا عايشين بدون تأمين طبي)، فإنَّ هذا يسبب الإرباك، ليس من جرّاء رأيه الشخصي في التأمين، فهذا حقه بلا منازع، بل لأنه قطع بتحريمه ونصح بتركه مستشهداً بتجربته الشخصية، وهذا يناقض ما أقرّته الدولة بعد استشارة هيئة كبار العلماء، وصدر به نظام يُطبّق منذ عشر سنوات. ويزول الإرباك لو أشار صاحب الفتوى إلى ذلك.
وممّا يبعث على الإرباك ما نُسب إلى بعض العلماء من تأكيد على أن النبيّ لم يحرّم السبي، أو اجتهادهم في توضيح الشروط الشرعية لفعل ذلك، ويحسنون الظن فلا يحذرون من استغلال قومٍ لمثل هذا القول وتأويله لتسويغ جرائمهم ضد الإِنسانية مثل السبي الذي تمارسه (داعش) و(بوكو حرام) على من تحكم عليه بالكفر من النساء، ولا يوضح هؤلاء العلماء أن السبي - وهو نوع من الرق - كان موجوداً قبل عصر النبي محمد وفي عصره، ولم يكن سنّة أحدثها الإسلام، بل هو رغّب في تحرير الرقاب، وكانت تمارسه جميع الدول المتحاربة في تلك العصور. ولكن دول العالم - بما فيها الدول الإسلامية، والمملكة من بينها - ألغت الرق واعتبرته محرّماً.
وفي السياق نفسه يرِدُ ذكر فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية أجاز فيها قتل الابن لوالده الكافر إذا أصر على كفره بعد دعوته، حيث يجد فيها المنتمون لفكر (داعش) فرصة للتأويل الفاسد الذي يسوّغ قتل الوالدين والأقارب. ومبعث الارتباك يرجع إلى أن ظاهر الفتوى - إن صحت نسبتها إلى ابن تيمية - لا تتفق مع نص الآية الكريمة (15) من سورة لقمان {.. وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.. الخ الآية. فهل كان ابن تيمية يقصد فقط الوالد الكافر الذي يشهر سيفه على المسلمين في معركة حربية؟ والفتوى الصادرة من عالم جليل هي من حقه في الاجتهاد على أي حال، وهي قابلة للأخذ والرّد، ولكن الأمر يختلف عندما تتحول إلى حُكم ملزم تتبنّاه جهة علمية معتبرة على الرغم من وجود آراء أخرى مختلفة لها وزنها واعتبارها، كما يلاحظ في مقرّر الحديث والثقافة الإسلامية للسنة الثالثة الثانوية، حيث كتب مؤلفو المقرّر بشأن حجاب المرأة: (ولنعلم جميعاً أن احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب دلّ على وجوبه كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه محمد - صلى الله عليه وسلَّم - والاعتبار الصحيح والقياس المطرّد). وبعد أن ذكر الكتاب بالتفصيل الأدلة التي يراها موجبة وذكر أدلّة المبيحين لكشف الوجه باختصار والرّد عليها، أكد على: (أن وجوب الحجاب حكم شرعي أنزله الله - عز وجل - في كتابه وسنة رسوله وليس عادة من العادات). الإرباك هنا للطلبة ولأولياء الأمور يأتي من وجهين: الأول أن الطلبة في سنّ ناضجة (17 - 18) سنة ويعرفون عن وجود فتاوى مختلفة من علماء كبار آخرين (ناصر الألباني ومحمد الغزالي مثلاً)، وأن كشف الوجه سائد في كثير من المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر، وأن في مؤسّسات الدولة نساء كريمات يحضرن كاشفات للوجه ولم يحصل ما اعتبره المقرّر من المفاسد، فيتساءلون في حيرة: هل كل أولئك مخطئون وآثمون بترك الواجب؟ الثاني ماذا سيكون جواب الطالب على سؤال عن حكم تغطية الوجه: هل يكتب ما يعتقده صحيحاً - وربما يطبقه أهل بيته - بأنه غير واجب، ويسرد الأدلة المبيحة؛ أم يكتب ما تمّ تلقينه إياه في الفصل بأنه واجب، ما دام هذا ما يريده الممتحن؟
لإزالة الحيرة والارتباك لا بدّ أن يكون لهؤلاء الطلبة الناضجين مشاركة تفاعلية في نقاش الموضوع، وذلك ممكن بالابتعاد عن احتكار الرأي، وعرض الرأيين على قدم المساواة بدون حكم مسبق، وترك الفرصة للطلبة لمناقشتهما في ضوء مقارنة موضوعية بين الأدلة، وأيضاً بين المفاسد والمصالح من الناحية الاجتماعية والأخلاقية.
إن المقصود من كل ما سبق ذكره هو التوضيح بأنه لا يوجد في الواقع تصادم بين الآراء السلفية التقليدية والآراء الوسطية الحديثة في فهم الأحكام المتعلقة بقضايا الناس الدنيوية، بل إن المفاهيم يمكن أن تتصالح وتزيل الحيرة والارتباك إذا توافر الاتفاق على فهم معاني تلك الأحكام بعد الأخذ في الاعتبار سياقها الزمني والمكاني ومحافظتها على المقاصد الشرعية، ومن ثَمّ تنزيلها على قضايا العصر الراهن، بدلاً من تنزيل ظروف العصر الذي صدرت فيه على الواقع الراهن.
إن الوصول إلى هذا (التصالح) كفيل بإثبات سماحة الإسلام وسعة تعاليمه وأنها صالحة لكل زمان ومكان، مما يدفع الناس إلى تقوية التمسك بها والاستقامة عليها.