د. حسن بن فهد الهويمل
إذا كنت لا أبرئ نفسي، وتلك مُسَلَّمةٌ لاشية فيها، فمن باب أولى لا أبرئ مَنْ حولي جماعات، وأفراداً، سواء كانوا متفقين معي، أو مختلفين.
ومن المسلمات أيضاً أننا جميعاً خطاؤون. والخطأ ابتداء لا يعاب مرتكبه، إذا كان من أهل الاجتهاد.
الخطيئة الكبرى أن يرى المغرورُ نفسَه معصومةً، وأنه فوق النقد، والمساءلة، وأنه لا معقب لما يقول.
والكارثة المدمرة ذهاب البعض مِنا إلى تصنيم نفسه، والزهو بها إلى حد [النرجسية] والقطع بأنه لا يقول إلا الحق. على حد:- [مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى?]. وأن مراجعته فيما يبديه في الشأن العام، تشكيك في أهليته، واتهام لمصداقيته. وأن مثل هذه المراجعة مدفوعة بالحسد، والكراهية، والوقيعة.
وكيف لا يتأتى منا قبول التساؤل المدعوم بحسن الظن، والثقة بالنفس، والدعاء بالرحمة لمن أسدى لنا عيوبنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من صحابته الرأي المعارض، بل الرأي الملح في المعارضة.
فهذا [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه، لايكتفي بالمراجعة، بل يمسك برداء الرسول صلى الله عليه وسلم يجره إليه، ليثنيه عن الصلاة على رأس المنافقين. ولم يَبْدُ من الرحمة المهداة امتعاض، ولا قسوة في الرد. بل يوحي موقفه بقبول المعارضة.
قلت، وسأظل أؤكد أن: تلبس خطاباتنا بالطائفية، والحزبية و[الأيديولوجية] خطوة أولى في سبيل التيه، والتنازع، والفشل، والضياع.
أقول ما تقرؤون، وأنا أرصد ردود الأفعال المحتدمة حول: [حادث التفجير] الآثم في بيت من بيوت الله، وإزهاق أرواح بريئة طاهرة، تؤدي الصلاة.
وحول قرار [وزير التعليم] فتح فصول لتحفيظ القرآن، ملحقة بسائر المدارس، إذا قامت الحاجة، ورغب أولياء الأمور ذلك.
فالعمل الإرهابي المتوحش مرفوض بكل لسان، ولسنا بحاجة إلى التجريم، ذلك أنه من تحصيل الحاصل، والإلحاح على التجريم كلعن الشيطان، يحمله على الزَّهُوِّ.
حاجتنا الملحة في قراءة الحدث، وتفكيكه، والخروج بمواقف تحول دون تكراره، أو تحقيق مقاصده.
وليس من السهل مقاربته بإمكانات ضئيلة، وعواطف جياشة، ومشاعر محتدمة. العدو يريد اهتياجنا الأعزل، ومواجهتنا الرَّعْنَاء، وتصرفنا المنْفَعِل.
إن اختطاف الحدث، لتقوية الرؤية الفئوية، وتخذيل المُسْتَهِم في السفينة من الممارسات المنبوذة، لأنها تُسْلِم الشريك، وتُدَابره، وتمكن مَنْ وراء الحدث من تحقيق مآربه.
الأمة بكل أطيافها مستهمة في سفينة الحياة، وكل مَنْ حَوْلها، وسائِرُ أحداثها المفتعلة تريد تدميرها، وإغراق أهلها. ومثل هذه اللحظات الحرجة تتطلب الالتفاف، والتسامي فوق الخلافات الجانبية.
أمتُنا، أمنُنا، مقدساتُنا، مكتسباتُنا مستهدفة. وأعداؤنا يتمتعون بجلد الفاجر، ويتحسَّسُون عن الثغرات المهملة، ويستبقون حبل الفجيعة، ليلفوه حول أعناقنا. والبعض منا يحيل الخطيئة إلى ذوي القربى. فهو كمن ينهش أعضاءه، ويقتات من لحمه.
إن التعددية الفكرية ظاهرة حميدة، متى أحسن كل الأطراف إدارة الاختلاف، ومعرفة الوقت المناسب للجدل حولها.
إن أجواءً مكفهرة، مشحونة بالتوتر كتلك التي يعيشها خليجنا العربي، لاتحتمل فتح الملفات المفتعلة، أوالحقيقية.
وحري بنا أن ندعها ثاوية في رفوفها، حتى يتوفر الوقت المناسب، والأجواء المواتية، وتتوارى الفتن وراء الحجاب.
تعليمنا بريء، وشبابنا عيبتنا، ولا يمكن التقليل من شأنهم، ولا التنقص من كفاءتهم، وأهميتهم، ودورهم في درء المفاسد عن وطنهم، وأهلهم، وعقيدتهم السليمة، عقيدة السلف الصالح، المستمدة من الكتاب، وصحيح السنة، وسيرة السلف الصالح.
ومن شذ منهم فعليه وزره: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وليس من الإنصاف التعميم، وأخذ المقيم بالظاعن، فكل نفس بما كسبت رهينة.
والعقلاء المدركون لعواقب الأمور، يكونون في أتون الأزمات أشد تلاحماً، وأقدر على تفادي الاختلاف. وكيف لانكون، وقطيع الغنم حين تجتاله الذئاب، يلتف حول بعضه.
ثم إن الفكر السياسي الإسلامي نظر إلى مثل هذه الظروف العصيبة التي تمر بالأمم نظرة ثاقبة، وتعامل معها باحترافية، وحِسٍّ أمني.
ولتحقيق هذه الرؤية أكد على الالتفاف، والتعاضد، وأغرى بالجماعة، وأكد أن يد الله معها، ووصف الشذوذ عنها بالهلكة. ذلك أن المغرد خارج سربها، كالقاصية من الغنم.
لقد أصيبت الأمة في الصميم، واستُهْدِفت في أمنها، وفي رجال أمنها، وفي تلاحم جبهتها الداخلية. وليس من مصلحتها أن تتعدد فيها الأصوات، ولا أن تختلف الآراء حول ما هو معلوم من الحدث بالضرورة.
الإرهاب لا دين له، بل ولا زمان، ولا عرق. فالعالم تجرع مراراته عَبْر التاريخ، وفي كل بقعة من الأرض شطر منه، وفي كل فترة تاريخية نابتة سوء. والقبول بما يشاع، توهين للعزمات. ومن أحال إلى التعليم، أو إلى الطائفية، أو أحال لزمان معين، أو لمكان محدد، فقد حَجَّر واسعاً.
فأين نحن من المنظمات السرية في العالم عبر التاريخ؟.
وأين نحن من بعض الطوائف الإرهابية كـ[القرامطة]، ومتطرفي الصهاينة؟.
وأين نحن من بعض العمليات الإرهابية التي تمارس في أرقى دول العالم، وأشدها تمسكاً بالحرية، و[الديموقراطية]، والعلمانية؟.
لانريد لمفكرينا، ولا لكتاب الرأي عندنا، ولا للمغردين أن يكونوا مرتهنين لخطابات التنصل، وتبادل الاتهامات، والتصورات الخاطئة.
تعليمنا، وأنساقنا الثقافية بريئة من هذه الظاهرة. وبدل أن تتبادل أطيافُ مجتمعنا الاتهامات، دعونا نمد عيون بصائرنا إلى الحقد المجوسي، والتوسع الفارسي، والفَرَق الصهيوني.
العنصرية الفارسية والصهيونية تتفقان على كره العنصر العربي. وكل مصائبنا من صراع العنصرية. المتلبسة بالدين.
ومن المسلمات أن الإرهاب ظاهرة عالمية، وجدت قبل أن نوجد ككيان سياسي، وستظل بعد أن نزول. ولن تُحْسم على أي أرض، ولن يُقْضَى عليها في أي وقت.
مهمتنا محاصرة الظاهرة، والقضاء على الأجواء الملائمة لانتشارها، وتحويلها من ظاهرة إلى واقعة.
والعناية بكتاب الله حفظاً، وتجويداً، وتدبراً، وفهم مقاصده، تُساعِد على نبذ الإرهاب. فالإسلام يجنح إلى السلام، ويُحَرِّم القتل الهمجي، ويضبط محققات الجهاد الإسلامي. ومن أراد الوفاق، والتعايش، ورأب الصدع فواجبه ألا يحيل إلى أي نحلة، أو ملة.
لقد تلاحقت [التغريدات] المتناقضة، والكلمات المريبة من رجال لما نزل نعدهم من الأخيار، وهو مؤشر تخذيل، وتوهين، وإدانة للذات، وتمكين منها.
وحين أكون ملتزماً بمعطيات الكتاب، وصحيح السنة، وسيرة السلف الصالح فإنني لن أستعدي على من يخالفني الانتماء، لمعرفتي أن مثل ذلك يعمق الاختلاف، ويذكي نار العداوة، والبغضاء.
ومقصدي من فيضان المصدور فك الاشتباك، وتهدئة الأمور، وتأجيل المناكفات إلى الوقت المناسب. لا نريد صب الزيت على النار، وتبادل الاتهامات.
الله خلقنا للاختلاف، إلا من رحم ربك، وقليل ماهم، وواجبنا أن نكون بارعين في إدارته، عارفين بالأجواء الملائمة له.
المشركون إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين. ونحن أمة القرآن، لانحسن التكتل في الأزمات القاتلة لنا على مختلف مشاربنا وانتماءاتنا.
يقول أحد المغردين:-
«كل من يَنْسِبُ مايفعله المفجرون من أبنائنا لغير ماتعلموه عندنا، يفوت الفرصة عن اكتشاف الخطأ وعلاجه.»
وانظر إلى قوله:- [عندنا]. والرد على هذه التغريدة الجائرة الواهمة من وجوه:
الأول: أن تعليمنا ليس بدعاً بين مناهج التعليم العربي
ثانياً: أن تعليمنا خَرَّج الملايين من العلماء، والأطباء، والمهندسين، والوزراء، ورجال الأعمال، ومنِهم كاتب هذه التغريدة. ولم يكن غالب هؤلاء الملايين إرهابياً.
ثالثاً: أن تعليمنا منذ أن وضع أسسه رجالات الملك [عبدالعزيز]، إلى يومنا هذا، لم يفرز طوائف الإرهاب.
حتى أنه في عهد الملك [عبدالعزيز] كان دينياً خالصاً، وسلفياً واضح السلفية، ولم نجد في عهده، ولا في عهد الملوك من بعده من مخرجات التعليم من حمل السلاح، ولا من استبطن الأحزمة الناسفة. ودعوى [المنهج الخفي] و [العلماء المتشددين] وقوعات، وليست ظواهر، وشواذ خارج السياق.
رابعاً: هذه الدعوى الكاذبة تُحمِّل الدولة، والمناهج التْعليمية مسؤولية الإرهاب العالمي. وكأن المملكة هي وحدها التي تتعمد صنع الإرهاب. وهذا ما يتعطش لمثله [نوري المالكي] الذي باع قوميته، ووطنه، وأظهر في الأرض الفساد.
خامساً: [نوري المالكي] الصورة المشوهة [لابن العلقمي] في افترائه على المملكة بزعمه أنها الحاضن للارهاب، واستعدائه عليها، وسعيه لتدنيس المقدسات، بجعلها تحت وصاية الصليب، يجد في هذه الاطلاقات شاهد أهل، وهذا يشكل خطراً على سمعة المملكة، ومكانتها، وأهليتها.
وكأني بهذا الصنف المتسرع، وغير المتورع يعاضد [المالكي] في وضع المملكة تحت الوصاية الدولية، لعجزها عن تجْفيف منابع الإرهاب.
وكيف تستطيع الدولة بكل مؤسساتها الإعلامية، والثقافية الدفاع عن نفسها، وأبناؤها المؤهلون الذين هم من مخرجات التعليم يتهمون مناهجها التعليمية بصنع الإرهاب. أو على الأقل بتهيئة الأجواء، والحواضن.
قد يكون المتطرفون من العلمانيين و[الليبراليين] أشد خطراً على سمعة الدولة من المتطرفين المتدينين، وفي كل خطره. ذلك أن القول بأن الإرهاب ناتج مناهج تعليمية تحريض على الدولة، واستدعاء للقوى العالمية على القبول بهذه الفرية.
ومغرد آخر من الضفة المقابلة يقول:
[مع كل تفجير للخوارج، يحرض [الليبرالي] السعودي المتصهين على أهل السنة بالإثارة لكتب بن تيمية، بل ويحرض على السعودية بالإشارة لكتب ابن عبدالوهاب].
تلك مقولة رجل متحمس، لايقل جناية عن مخالفه. وهي تلبسات لا نودها، فالمحرض على المناهج لايحتمل ماسواه مقترفه، مثله كمثل المحرض على ماسواه.
ونحن لكي نطفئ لظى المناكفات، يجب أن نلطف الأجواء، وأن نحول دون التصعيد. فالمناكفات من هذا الوزن تصب في مصالح الأعداء. وكل ما يقوله الطرفان ملفات محفوظة في مراكز معلومات الأعداء، تفتح متى شاء الأعداء توهين عزماتنا.
إننا لكي نخرج من عنق الزجاجة بسلام، علينا ألا نتبادل الاتهامات، سلفيين كُنَّا أو[لبراليين] أو علمانيين، أو طائفيين. ولا سيما أن الإرهاب ظاهرة عالمية أزلية، لايحتمل أوزارها زمان، ولا مكان، ولا طائفة، ولا دولة. وإن بدت في تصرف بعض الطوائف كـ[الرافضة المجوسية].
الوقت الموبوء لايحتمل تبادل الاتهامات بين المستهمين على السفينة.
لقد رُفع سقف الحرية، ووفرت الدولة الأمن الفكري، وأعطت مساحة كافية لحرية التفكير والتعبير.
وواجب العقلاء أن يستغلوا هذه المساحات بما يُقَوِّى تماسك الجبهة الداخلية، وبما يُحَوِّل الاختلاف من تدابر إلى جدل حضاري، يجلي الحقائق، ويدعم الحق.
وحين لانملك تلك السمات الحضارية، فلا أقل من تأجيل المناكفات إلى الوقت الملائم.
الدولة في ظروفها الراهنة بحاجة إلى من يكفيها الشأن الداخلي، ويحفظ ساقتها.
إنها تخوض معارك وجود، أو عدم. فلنكن ردءاً، و عضداً. أو على الأقل نخلي بينها، وبين أعدائها على حد:-
[قِفُوا وِقْفَةَ المعْذُورِ عني بَمْعزَلٍ
وخَلُّوا نِبَالِي لِلْعِدى وَنَبِالها]