د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
وصلتني عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي قصة خلتها معبرة، وسأستاذن من أرسلها لي في أن شارك القراء فيها لأنني أعتقد أن بها من واقعنا شبهاً غريباً، وعبرة تعتبر.والقصة للشخصية التراثية الطريفة «جحا» الذي اختلف العالم حول كونه شخصية حقيقية أم خيالية،
وفي أصل موطنه حيث ادعت ثقافات إسلامية كثيرة نسبته إليها بداية من مصر ومروراً بالبوسنة وانتهاءً بتركيا. كما لا يُعرف في أي عصر عاش. ويُقال تارة إنه عاش في العصر الأموي ويقال بعد ذلك في العصور الوسطى. ويعتقد بعض الباحثين أن شخصية جحا في نمطها وعمقها شخصية كونية لا تخلو ثقافة عالمية من شخصيات مشابهة لها تعلق عليها بعض القصص والوقائع التي تتأرجح بين الواقع والخيال. وتُعَدُّ شخصية كجحا في عرف النظرة الحديثة للثقافات ناطقاً رسمياً باسم الثقافة الشعبية، يضرب به أحياناًً المثل في الغباء، وكثيراً ما ستر غباءه نوع من المحاكاة الذكية للثقافة السائدة الرسمية فتأتي حكاياته بأسلوب مضحك مبكٍ لكنها لا تخلو من الحكم والعِبَر مثل قصتنا المعبرة هذه.
شكا حجا لصديق يثق بحكمته أنه يسكن في غرفة ضيقة هو وزوجته ووالداه وأولاده، وقال له إنه يكاد يجن من ضيق المكان، فالناس تتراكم فوق بعضها فلا يستطيع أن يهنأ بالنوم أو خلوات المنزل. فنصحه صديقه أن يدخل كلبه معه في الغرفة ويجرب. وبما أن جحا يثق بحكمة صديقة فقد قرر تجربة نصيحته وأدخل الكلب. وعندما قابله صديقه سأله عن حاله فأجاب بأن الكلب نفسه ضج من كثرة الموجودين ومن ضيق المكان بالنباح المتواصل، فرد عليه صديقه ناصحاً: حسناً، أدخل إذاً حمارك معه في الغرفة وجرب! فأدخل جحا الحمار للغرفة مع الكلب وجرب، ثم بحث عن صديقه ليروي له بأن الحمار ركل الكلب وأن الحمار بإخافته الجميع سيطر على حيز كبير من الغرفة، فأجابه صاحبه حسناً: جرب للمرة الأخيرة إدخال الديك معك في الغرفة، فأدخل جحا الديك للغرفة لتكتمل بذلك جوقة الموسيقى: نهيق الحمار، وعواء الكلب، وصياح الديك، هذا إضافة للروائح والزحام.
وعندما قابل حجا صديقه بادره بغضب: رأيتك تريد أن تقضي علينا بنصيحتك هذه بالنوم مع هذه الحيوانات؟! فالوضع في الغرفة لا يطاق أبداً، فأجابه صديقه: حسناً أخرج الكلب إذاً. فأخرج حجا الكلب، وعاوده زميله السؤال: كيف الوضع الآن؟ فأجاب أفضل من البارحة، فأردف الصديق: حسناً إذاً أخرج الحمار! فأخرج جحا الحمار، وأتي لصاحبه وهو في حال أفضل من ذي قبل، فقال له لقد تحسن الوضع قليلاً، فرد عليه صاحبه: حسناً أخرج الديك! فأخرج جحا الديك وإذا به يعود لصديقه والابتسامة تعلو محياه. كيف الوضع الآن يا جحا؟ قال: أحمد الله على واسع نعمه، فالغرفة الآن أصبحت مريحة.
قرأت القصة وتذكرت وضع ما سمي بدول الربيع العربي، حيث خرج المساكين من المستضعفين مطالبين بتحسين وضعهم وإيجاد أعمال ووظائف لهم ولأبنائهم لينتهي الحال بهم في صراعات لا نهاية لها أدخلت عليهم كائنات طامعة من كل فج وصوب، وبشر ما أنزل الله بها من سلطان: داعش، قاعدة، عسكر، إخوان، مقاتلين أجانب، مخابرات أجنبية إلخ.. جميعهم تزاحموا في هذه البلدان الفقيرة الصغيرة ليأتوا على ما تبقى منها. والفرق المأساوي بين وضعهم وبين وضع جحا وغرفته هو أن حجا استطاع أن يخرج الحمار، والكلب، والديك من غرفته وأحس بتحسن ولو نفسياً. بينما أخرجت الحركات المتطرفة المتوحشة التي أدُخلت للبلدان العربية المواطنين من منازلهم بقصفهم بكل الأسلحة الفتاكة وقتل نسائهم وأطفالهم، واغتصاب نسائهم، وجز رؤسهم، وتدمير تاريخهم وجغرافيتهم. جماعات لم ير التاريخ نظيراً لها في عنفها، جعلت الموت مشهداً يومياً بل وتفننوا فيه بكل دم بارد وبأشكال مفزعة. وبخلاف حجا لم يستطيعوا أخراجها من بلدانهم بل إن بعضهم هرب تاركاً بلاده مفضلاً الموت غرقاً في عرض البحر على انتظار مصير أسوأ منه.
الفرق واضح بالطبع بين الوضعين، فجحا هو من أدخل الحمار والكلب والديك لغرفته فسهل عليه إخراجها، أما الكائنات الغادرة والمتوحشة التي دخلت الدول العربية فهناك من أدخلها وهو يعلم ألا أحد يمكنه أن يخرجها، وهو يبعث برسالة لكل الشعوب الأخرى بأنها إذا كانت تعتقد أن غرفها ضيقة، أو تطمح لحياة أفضل فستدخل في حياتها الحمير والكلاب والضباع وغيرها ليخرجوهم منها. وهذا ما يجعل أوضاع التسلط والقهر والظلم كالقدر المحتوم في بعض الدول التي طالها الربيع العربي، فالبديل هو الدمار المنظم. فداعش تتمدد في أكثر من بلد وكأنها دولة عظمى ولا أحد يعرف له أصلاً.
ضج العراقيون من حزب البعث العراقي مع أنه اتضح اليوم أنه أفضل بكثير من زميل دربه حزب البعث السوري الذي يمارس القصف اليومي لشعبه بأسلحة الدمار الشامل التي تصله مجاناً من إيران وروسيا، فحزب البعث العراقي لم يعرف عنه في تاريخه الذي كنا نعده دموياً أموراً مثل التي تجري اليوم في جارته سوريا. وظن الشعب العراقي أنه سيتحرر في وطنه المتعب من الحروب وأنه سينعم بالحرية والديمقراطية، فأدخلت أمريكا في غرفته قادة أفتك من الجراد أتوا على الأخضر واليابس وجعلته يتمنى عودة صدام حسين وأنه لم يطلب التغيير. فجلبي، والمالكي، والشخرستاني وبقية العصابة التي احتلت العراق وتقاسمته مع إيران لجأت إلى أقذر الطرق أيضاً لإحكام سيطرتها على العراق بإشعال حرب طائفية يحجب دخانها النهب الممنهج للوطن: نفطاً، وأرضاً وزراعةً، وآثاراً. أما في سوريا فقد تمدد حمار جارتها العراق لينال من نصف أرضها مرحبة به ليركل من يتحرك من سكانها. وقد يتم إخراجه متى ما استتب الأمر وتعلم المواطنون الشرفاء الضعفاء الدرس. كل ذلك في غياب تام لأي توافق إقليمي أو دولي لإيقاف هذه المهالك، والتوافق الوحيد على مستوى الإقليم والمستوى الدولي هو تلقين المواطن العربي درساً بعدم الطموح لوضع مقارب لما يعيشه العالم من حوله، فهو ليس إلا إنسان هامشي كجحا في عالمه.
وربما لسوء حظ أمتنا التعيسة أنها تشغل منطقة إستراتيجية تحتاجه كل إمبراطورية طامحة لاستعادة أمجادها، حكمها الأتراك، وتلاهم الإنجليز، والآن أمريكا، وروسيا، وأخيراً تلك البويضة التي فقست للتو في ظل سخونة ظروف المنطقة بشكل عجائبي وتحاول أن تبني لها مجداً في منطقتنا مستغلة جهل بعض مواطنينا بعد أن أغارت عليهم بجيش جرار من الملالي ليغسلوا عقولهم ويقنعوهم بأنها ستعيد الماضي فيما سيأتي من المستقبل، وستنشئ إمبراطورية يحكمها آل البيت تأخذ بثأر الحسين وتمهد لعودة المهدي، والمصيبة أنها تجد من يصدقها ويدعمها ليضيف الزيت على نار مستعرة أصلاً. ولب المأساة هو أن لكل طموحه وبرنامجه في منطقتنا إلا نحن، أبوابنا مشرعة لكل من يقدم علينا، وقضايانا الداخلية معولمة بامتياز، نرحب بكل مقاتل متطرف حتى ولو قتل أطفالنا ما دام يؤكد لنا أنه يتبع مذهبنا. ولذلك فعلى الجماهير العربية أن تقبع في غرفها الصغيرة وتقبل بفتات العيش على هامش العالم الذي يتقدم ويتطور حتى لا يتم استقدام من يخرجها في قوارب لتموت في البحار.